بقلم:فؤاد نصر الله – دنيا الوطن
1
ولد الشاعر علي أحمد سعيد “أدونيس” بقرية قصابين قرب مدينة جبلة في محافظة اللاذقية السورية ، سنة 1930، حيث تعلم في كتاب القرية حتى الثانية عشرة من عمره ، وهناك شاهد النهر هادرا كما افتتن بألوان الطبيعة من حوله ممثلة في الصخور والأشجار والأعشاب والمروج الخضراء .
في تلك الفترة المبكرة من حياته قرأ للشعراء القدامى: المتنبي ، وأبو تمام، والبحتري ، والمعري ، والشريف الرضي ، وعشرات الشعراء غيرهم . كما علمه والده القرآن الكريم وتجويده . وبعد مرحلة السماع أتت مرحلة التعرف على عوالم الصرف والنحو في جو القرية المشحون بالألفة والمحبة والأستمتاع بعناصر الطبيعة الخلابة في تلك القرية الساحرة.
دخل أدونيس مدرسة اللاييك بطرطوس على نفقة الدولة. بعد البروفيه “المرحلة المتوسطة ” تابع دراسته الثانوية في اللاذقية، المدينة المطلة على البحر المتوسط .
في السابعة عشرة من العمر ، كان قد بدأ كتابة نصوص شعرية ونثرية كان يوقعها باسمه المألوف : علي أحمد سعيد، ويرسلها إلى بعض الصحف والمجلات آنذاك للنشر لكنها لم تكن تنشر، وأثناء ذلك وقعت في يده مجلة ثقافية قرأ فيها مقالة عن أسطورة أدونيس. وكيف أحبته عشتار،فأحب تلك الأسطورة وقرر أن يستعير هذا الاسم لنفسه ،وما أن بدأ يوقع قصائده بهذا الاسم المستعار حتى وجدت قصائده النور بل وتنشر في الصفحة الأولى.
وكما يقول الشاعر نفسه فإن اختيار الاسم كان ينطوي على رمز الخروج من الانتماء القومي، إلى الانتماء الإنساني، الكوني، وأنه سيثير بذلك الأوساط الثقافية بل سيناله عداء البعض في بر الشام إلا أنه لم يبال بذلك .
وفي عام 1950 أتجه إلى دمشق حيث دخل كلية الحقوق فأمضى قرابة السنة، ثم انتقل إلى كلية الآداب قسم الفلسفة، فقد كان يشعر أن قسم اللغة العربية لن يفيده في مشروعه الشعري .
خلال إقامته في دمشق انخرط في الحزب السوري القومي، وتعرّف إلى زوجته خالدة سعيد التي كانت تدرُس في «دار المعلمات» في دمشق .
بعدها بسنوات قليلة ، وبالتحديد في سنة 1954 نشر قصيدته «الفراغ» في مجلة «القيثارة» ، وكانت تصدر في اللاذقية، وأخذت الأوساط الشعرية العربية تعترف به بدءاً من هذه السنة وقد تعرف حينها على الشاعر يوسف الخال الذي كان قد قرأها وهو في نيويورك .
اختتم ادونيس دراسته الجامعية في تلك السنة ، وبدأ يهتم بقراءة الشعر السوري مثل: نزار قباني ، و بدوي الجبل ، وعمر أبو ريشة ، ، و نديم محمد الذي يعتبر مجموعته الشعرية من بين أهم المجموعات العربية في النصف الأول من القرن العشرين.
أمضى أدونيس قرابة السنة في كلية ضباط الاحتياط إلا أنه لم ينجح في هذه الكلية حيث جميع زملاؤه تخرجوا برتبة ضابط إلا هو فقد تخرج برتبة رقيب أول. وبسبب انتمائه للحزب السوري القومي الذي كان ممنوعاً آنذاك دخل سجن المزة بدمشق ثم السجن العسكري بالقنيطرة، وما لبث أن ترك الحزب السوري القومي.
في حلب أمضى جزءا من عام ، يقرأ لشعراء فرنسيين كبار ، من بينهم رينيه شار وهنري ميشو وماكس جاكوب ، وغيرهم . وفي سنة 1956 تزوج من خالدة سعيد ، وانتقلا إلى لبنان ، واستقرا في بيروت. وهناك التقى بيوسف الخال ومنذ لقائهما نشأت بينهما صداقة قوية، وكانت فترة خصبة من حياته حين بدأت مجلة «شعر» ، بالصدور وفتحت أفقاً جديداً للشعر العربي. ففي مطلع 1957 صدر العدد الأول من مجلة «شعر» وهزت الأوساط الشعرية العربية بجديدها وجرأتها في آن واحد.
أقامت المجلة الوليدة ندوة أسبوعية باسم «خميس شعر» ، وفيها كان الشعراء المقيمون والشعراء العابرون يلتقون فيها، ويقرأ من يشاء منهم آخر ما كتبه أو بعض ما كتبه ثم يناقش الجميع ما سمعوه ، ودامت هذه الفترة من عام 1957 إلى 1963 .
بعد هزيمة العرب على يد الكيان الصهيوني ، في يونيو 1967 أصدر أدونيس ، من بيروت مجلة «مواقف» وكانت تعنى بالأنشطة الأدبية والثقافية الجديدة.
بعدها بست سنوات ، بالتحديد سنة 1973 حصل أدونيس على دكتوراه الدولة في الأدب من جامعة القديس يوسف في بيروت، وموضوع الأطروحة التي صدرت بعد ذلك كان «الثابت والمتحول» ، وهو الكتاب الذي صدر كاملا فيما بعد من ” دار الآداب ” ببيروت.
وفيما بعد ، ومنذ سنة 1981 تكررت دعوته كأستاذ زائر إلى جامعات ومراكز للبحث في فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، وتلقى عدداً من الجوائز اللبنانية والعربية والعالمية وألقاب التكريم، وتُرجمت أعماله إلى ما يقارب الثلاث عشرة لغة.
وحدث أن غادر بيروت في 1985متوجهاً إلى باريس بسبب ظروف الحرب الأهلية ، وحصل سنة 1986 على الجائزة الكبرى ببروكسل، ثم جائزة التاج الذهبي للشعر في مقدونيا 1997.وقد كرم فيما بعد بالقاهرة ودمشق وبيروت وتونس نظير تجربته الشعرية الهائلة.
في 2007، كان أدونيس أحدَ المرشحين لجائزة نوبل للآداب ولكن لم ينَلْها.لكنه نال الكثير من الجوائز الأخرى ، منها :
جائزة الشعر السوري اللبناني: منتدى الشعر الدولي في الولايات المتحدة الأمريكية، 1971، جائزة جان مارليو للآداب الأجنبية: فرنسا، 1993، جائزة فيرونيا سيتا دي فيامو: إيطاليا، 1994، جائزة ناظم حكمت: تركيا، 1995، جائزة البحر المتوسط للأدب الأجنبي: فرنسا 1996، جائزة المنتدى الثقافي اللبناني: فرنسا، 1997،جائزة التاج الذهبي للشعر: مقدونيا، 1998، جائزة نونينو للشعر: إيطاليا، 1998، جائزة ليريسي بيا: إيطاليا، 2000.
هذه سيرة مقتضبة للشاعر الكبير : علي أحمد سعيد .
2
يلتقي الحس والتجريب في بنية اللغة التي يعتمدها أدونيس في نصوصه الحداثية إضافة إلى البعد التاويلي ومستوى الحضور الرمزي للغة في لحظتها المفارقة . إن اللغة هي الحضور بذاته وتثبت هذه الخصوصية حين نعالج قصائده نقديا فنلمس ذلك الحس الصوفي الذي يفيض حكمة وعذوبة .
إن لغة الشعر تختلف عن لغة الاستعمال اليومي ، حيث نلمح ذلك لاستقراء المعنى الشعري الذي يسلمنا إلى الأفاق المعرفية حيث التناغم الإيقاعي الذي يتساوق مع التجاوز المعجمي مما يدفع بنا إلى فضاءات الإكتشاف الجمالي لنصوص عالية القيمة كما يبدو ذلك في قصيدة ” المهد ” :
… إِذَنْ أَدْعُو إِلَى تَوَاطُؤِ الهَمْسِ وَالشَّمْسِ, العُنُقِ وَالأُفُقِ
إِذَنْ, أُشَبِّهُ غُمْدَانَ بِالنَّهَار, وَبَلْقِيسَ بِاللَّيْل, وَأَنَا بَيْنَهُمَا الهَدِيل.
تكمن عمق الدلالة في تلك الحالة التي يجمع فيها الشاعر الأضداد ، محاولا أن يبسط لنا تجربة شعرية مثقلة بجماليات النص الدائري المنفتح على حقول معرفية متعددة . إن مفردات النص تكتمل بما لدينا من حدس وقدرتنا على استشفاف ما وراء اللغة من ظلال :
شَجَرُ أَيَّامِهِ عَارٍ, وَالجذْرُ الَّذِي نَمَاهُ يَأْخُذُ شَكْلَ الصَّحْرَاء, وَهَا
هُوَ التَّارِيخُ يُلَفُّ بِالسَّرَاوِيل, وَالوطَنُ يُكْسَى بِالرَّمْلِ لَكِنْ هَذَا
الظَّاهِرُ لاَ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ يَعْرِفُهُ بَاطِنٌ لَمْ يَحِنْ ظُهُورهُ بِالْغِيَابِ
يَمْتَحِنُ وَيَسْتَقْصِي, وَبِاسْمِ الحُضُورِ يسُنّ شَفْرَةَ الكِتَابَةِ وَيُحَزِّرُ
نتوقف أمام تاريخ يأخذ سمت الصحراء ، في صورة مجازية تجرح خبرتنا المعرفية بجنوحها ، لكنها تزيدها نضوجا . إن أدونيس يطرح سؤال المعنى لكنه يطرح قبله معنى السؤال في صياغة محكمة تلوذ بما يقتنصه من قدرة على قراءة الواقع ودحض الاسطورة بشكل عنيف . بين الباطن والظاهر يقفز الغياب بما له من مرجعية في الفكر العربي بحضوره البليغ ، فتشع الخبرة الإنسانية وراء الأسطر الشعرية التي يشحنها الشاعر بما لديه من قيم جمالية تكمن في المفارقة حيث يتجلى الوطن من خلال معرفة سر الأرض :
هَذِهِ الأَرْض.
إِنَّهَا مُهْرَةُ الحِبْر تَخبُّ فِي سُهُولِ الحُلْمِ, لَكِنْ لأَحْلاَمِهِ طَبِيعَةُ
الجِبَال مَحَارَاتٌ وَقَواقِعُ يلفظُهَا مَوْجُ الذَّاكِرَة الزَّبَدُ يَنْعَقدُ أَسَاوِرَ
في مِعْصَم الشَّاطىء, وَالصَّخْرُ صَنَّارَةُ الهَواء وَرَأَى أَنَّ لأَيَّامِهِ
جَسَدًا تَمْسَحُهُ الرِّياحُ بِرِيشِهَا, وَأَنّ دَرْبَهُ غَابَاتٌ تَحْتَرِقُ
كيْفَ يُحَرِّرُ هَذَا الأُفُقَ الَّذِي يَلْتَهِمهُ مِنْشَارُ الرُّعْبِ?
يتصل الفضاء الشعري بدوافع غامضة تقلب النص على أوجهه وفي محاولة للقراءة الأولى نصل إلى نقطة واحدة تخطفنا جهة السؤال ، وتتعاقب الصور الجزئية لتحفر بنفسها بنية جمالية مشحونة بالرهافة والجمال . إن المقطع الشعري يعلن عن بنية عامة يتعاقب عليها احتمال الإنشاء والخبر .
تتفاوت المواطن الأسلوبية في عدد من الجمل الساحرة التي تشتمل على معان كلية ؛ حيث الأرض تخب في سهول الحلم ، حينها تتشكل الجبال محارات وقواقع فيخرج من عالم الصحراء مفردات من البحر ، وهي محاولة للإجابة عن سؤال التاريخ بعطاء الجغرافيا وهو ما يعني امتلاك الشاعر لعوالم متجاورة ، متناقضة ، وهنا يقع الشاعر في غواية اللغة حين تتشكل سحرا أسلوبيا يتخطى العناصر الجمالية الثاوية في باطن النص.
إن الأيام تمسحها الرياح بريشتها ، ويتحرر هذا الأفق وتكتسب اللغة هنا شحنة إيجابية حيث يتجاوز الأسلوب فتنة الإيقاع فتسري في النص روح وثابة تتجلى في كشوفات جمالية باذخة حيث يتحرر الأفق من منشار الرعب.
كأن ادونيس يعيد اكتشاف أحزان العالم أو هو يكتب مرثيته الخاصة قادما من أعماق التاريخ الموغل في القدم.لكن تحرير الأفق هو بداية لتحرير الذات المنتهكة .
3
إن حركة المساءلة تظهر في نسق فريد ، نتعرف عليه من خلال تلك المساجلة بين القائل والمستمع للكلام ، مع رمي النرد في مشهد يعلن عن انتماء الشاعر للفكرة وللقوم ، فيما يغلف التاريخ الوقائع بغلالة رقيقة تشع حزنا . والنقش يعلن عن الاسم والحجر مع ترديدات من قلب الأسطورة التي اتخذها أدونيس مدارا لحركته ولأنشودته التي استقاها من تراث موغل في القدم :
قَالَ أَنْسَلخُ مِنْ أَنْقَاضِي وَأَرْمِي نَرْدِيَ ( … ), –
(عَلِي أَحْمَد سَعِيد, اسْمٌ يَمَانيّ),
سَمِعْتُ هَذَا مِرَارًا والنّقْشُ الَّذِي بَقِيَ مِنْ قَصْرِ غُمْدانَ يَعْرِفُ
اسْمِي وَالحَجَرُ الذِي نُصِبَ لِعَشْتَرَ يَتَذَكَّر اسْمِي لي فِي
تُرَابِ اليََمَن عِرْقٌ مَا طِينَتِي قَابِلَةٌ وَغَرِيزَتِي حُرّة, –
أَنَا الأُسْطُورَةُ وَالهَوَاءُ جَسَدِي الذِي لاَ يَبْلَى
هَكَذا ذَهَبْتُ مَعَ ظَنِّي الجَمِيلِ انْسَلَخْتُ مِنْ أَنْقَاضِي وَرَمَيْتُ نَرديَ
رمية النرد تردنا إلى الارتداد نحو حقيقة ما حدث في واقعنا العربي ، فيفتح كتاب ” اليمن ” ويأتينا صوت ” رامبو ” وجمرة التاريخ في ” عدن”. تكتمل الحركة الدائرية ونحن نتعرف على بنية اللغة ومدى تغلل الأسطورة في تاريخ هذا المكان . عند النظر إلى تلك الأسئلة الصعبة تتحرك البوصلة نحو ” باب المندب ” فتسمع الأغاني بعد ان تسلب النار الوهج ولو من بعيد. وسنلاحظ في تلك الفقرة دوران الزمن وهو الشيء الذي برع فيه أدونيس باقترابه من مناطق الأسرار حيث يتبلور القول الشعري:
هُو ذَا أَتَوَهَّجُ مَع رَامْبُو بَيْنَ جَمْرَةِ عَدَنٍ وَتَبَارِيحِ المَنْدَب عاريًا
مِنِّي مَكْسُوًا بِهَا أَضِيعُ فِيهَا وَتَتَضوَّعُ فِيَّ –
عَدَنٌ / قَدمَاهَا موجٌ
جِذْعُهَا بَرَاكِين فَجْرُهَا يَطُوفُ سَاحَاتِهَا بِقَمِيصٍ مِنْ نَارٍ وَحِينَ
يَقْرَعُ بَابَكَ يَأْتِي مَحُمُولاً عَلَى أَجْنِحَةِ النَّوارِس تَنْهَضُ وَتَجْلِسُ مَعَ
شَمْسٍ تَجْمَعُ بَيْنَ حِكْمَةِ الغُرَابِ وَعُذُوبَة البجعِ تَرَى إِلَى البَوَاخِرِ
تَتَدَوَّر قِبَابًا تَكْتَنِزُ المُحِيط وَمِنْ كِتَابِهَا مَفْتُوحًا عَلَى مَدَى الزُّرقَة
تَسْمَع كَلمَاتٍ لَم تَأْلفْهَا تُفْرِغُهَا عَلَى صَفَحَاتِ الشَّوارِعِ رَافِعَاتٌ
وَعَرَبَاتٌ / مَحَابِرُ وَأَقْلاَمٌ مِنْ مَعْدَنٍ آخَر وَكُنْتُ أَسْمَعُ كَلِمَاتٍ
أُخْرَى تَتَسَاقَطُ عَلَى الأَرْصِفَة / يَمْتَلِىءُ وَجْهُهَا بِالْجِرَاحِ وَلاَ
شِفَاءَ لِرُضُوضِهَا وَبَيْنَ أَسْلاَكِ الحَدِيدِ وَأَسْلاَك القنّبِ يَتَصَاعَدُ
الصّخب
إن الاقتصار على بعد واحد في استقراء المعنى الشعري لايوصلنا إلى عمق المعنى، لذا لابد أن تكون التفاصيل مهيئة للكشف عن أسرار اللغة في تقاطعها مع الشعور حيث تنهض القوة الكامنة لتحويل الحسي إلى صور مبهرة انتزعت من واقع الحياة .. تلك التي عاشها رامبو وخضع لها أدونيس منتزعا ذاته من الأسطورة . هي إذن لحظة الإفصاح عن مسرات وومضات تكسب المعنى دلالته . يثمر الماء في عالم جديد هو الذي تعرف عليه الشاعر لحظة توليد القصيدة فإذا العمال حاضرون بقوة سواعدهم ، وإذا
النوارس ترفرف من بعيد فيما تنسي أنت طلاسم التقنية . هنا شعر عابر للازمنة بلا شك :
عُمَّالٌ يَفْتَحُونَ خَزَائِنَ المَوْجِ
عُمَّالٌ يُفْرِغُونَ وَيَفْرِزُونَ
عُمَّالٌ يَحْزِمُونَ وَيُكَوِّمُونَ
وَتَرَى إِلَى العرقَ يَتَدَحْرَجُ عَلَى جِبَاهِهِمْ وَأَعْنَاقِهِم وَتَتَمَرْأَى فِيهِ
كَأَنَّكَ تَتَمَرْأَى فِي مَاء عَالمٍ جَدِيد وَتَرَى إِلَى طُيُورِ البَحْرِ تَتَكَتَّبُ
وَتَهْجُمُ تُرِيدُ أَنْ تُشَارِكَ فِي هَذِهِ الضجَّةِ الخَالِقَة وَتُنْسِيكَ طَلاَسِمُ
التّقْنِيَةِ الَّتِي تَكْتُبُ المَدِينَة طَلاَسِمَ كُنْتَ تَتَوَسَّلُهَا فِي طُفُولَتِكَ لِتَقْرَأَ
الغَيْبَ
يمكن لأدونيس أن يعاود الكتابة بذات المنهج فإذا هو يسرع في تصعيد حركة الطيور في اتجاه معاكس بينما عدن تعلن عن ملامحها انبثاقا من قلب القصيدة:
… / وَأَخَذَتْ عَدَن تَتَرَاءى قَصِيدَةً لَمْ تُكْتَب وَكَانَ رَامْبُو قَدْ حَاوَلَ,
– اسْتَخْرَجَ حبرًا آخَرَ مِنْ كِيمِيَائِهَا, لَكِنْ خَانَتْهُ كِيميَاءُ العَصْر.
يستخرج الشاعر حبره من كيمياء جديدة ، ويمضى متتبعا خطوات ” رامبو” ، مسقطا أحزانه على عتبات عدن التي اختارها لتبدأ منها أسطورته الفريدة وحكايته الشجية المحزنة .
تتحدد شعرية القصيدة من وجودها المنفرد حين تلوح بإشاراتها محتفية بمشهدية ” عدن ” كواحد من الأمكنة التي يتوسمها الشاعر كي يحاول الإجابة عن طلاسم الأسئلة المؤجلة . هو شاعر للفرادة لكنه في ذات الوقت يعثر على سحر اللغة فيقتنص فرائدها ويشحن بها مبنى القصيدة حيث مناطق الاتصال والانفصال فيما ” الانا ” تتردد بين الانتماء للكل والنزوع إلى الذات المتحولة . هي لحظة جديرة بالإشارة إلى ” صنعاء ” ليكون السؤال أكثر اقترابا من حركة الواقع:
أَتَحَدَّثُ مَعَ عَدَنٍ وَتُوحِي إِلَيَّ صَنْعَاء تَسِيرُ مَعَكَ الأُولَى وَتُقْبل
إِلَيْكَ الثانيةُ فيما تَجْلِسُ حَوْلَهُمَا الجِبَالُ كَمثلِ شُهُبٍ هَدَّهَا
السَّيْرُ.
صَنْعَاءُ – تسنُدُني أَشْجَارُ السِّدْر تُظَلِّلُنِي أَشْجَارُ العَرْعَر
تَحضنُنِي بُيُوتٌ أَعْشَاشٌ تُوَاكِبُنِي مدَرَّجَاتٌ سَلاَلِمُ وَحِينَ أَنْخَفِضُ
فِي تِهَامَةَ وَأَلْتَبِسُ بِعُشْبِ الأَقَالِيم تَتَخَطَّفنِي نَبَاتَاتٌ تَتَآلفُ مَعَ
الصَّخْرِ وَنَبَاتَاتٌ تَعشقُ الملوُحَة وَتَنْفَجِرُ أَمَامِيَ الأَوْدِيَةُ حُقُولاً
فَيْضِيَّةً
تلك الصور تخطف روحه فيمضي في البحث عن زمنه الضائع ويتسق ذلك مع قدرته كشاعر على النهوض بدور إماطة اللثام عن ماهية الوجود في لحظات تشكله فإذا ” تهامة ” حاضرة والأشجار من كل نوع تحتل بدن النص وتحضر المياه لتحيط بكل شيء علما . ياله من موقف معاش ربما لا تفقهه اللغة رغم قداستها وسموها :
وَهَا هِيَ المِيَاهُ أُمَّهَاتٌ يُرْضِعْنَ النَّخِيلَ وَالأَثْلَ الأَرَاكَ
والطَّلْحَ وَيُرْضِعْنَ حَشَائِشَ لاَتَفْقَهُهَا اللُّغَة
صَنْعَاءُ, – أَسْتَسْلِمُ لِمُهْرَة الحِبْرِ وَأُلْقِي رَأْسِي عَلَى خَاصِرَةِ
أَحْلاَمِهَا: هَلْ أَهْمِسُ لِبَلْقِيسَ أَنْ تكْسِرَ عَقْرَبَ الوَقْتِ? هَل الذَّاكِرَةُ
بلْقِيسُ هَلْ بلْقِيسُ النّسْيَان? هَلْ بَلْقِيسُ نَجْمَةُ العَصَب هَلْ هِيَ
أَنِينُ القَصَب?
بلقيس هي السؤال الذي يؤرقه ؛ فيمضي في اختزال العالم ليكون على شكل ملكة متوجة وجميلة ، فقدت كثيرا من حكمتها العتيقة وإن بقي جمالها:
هَلْ هِيَ الضَّوْءُ تُفْرِزُهُ شَمْسٌ لاَ تَتْرُكُ أَثَرًا
لِخُطُوَاتِهَا? هَلْ هِيَ الحَنَانُ يَدْفُقُ عَارِيًا وَأعْزل كَمَاء اليَنَابِيع?
هَلْ هِيَ المنْجَلُ يَحْصُدُ الظَّلاَم? السُّؤَالُ يجمَح وَلاَ أعْرفُ كَيْفَ
أُرَوِّضُهُ.
جميع الحقوق محفوظة لدنيا الوطن © 2003 – 2017