قصّة قصيرة مهداة إلى روح صديقي الأحبّ الشاعر الكبير المرحوم الأستاذ جوزف حرب في مقامه العالي .
قاعة الاستقبال في الفندق مثل خلية نحل ، هي تبدو كذلك إثر الانتهاء من عقد تلك الندوة من ندوات المؤتمر.
الطاولة التي اخترناها بعيدة عن الازدحام الحاصل ، القهوة مطلوبة بعد عناء شديد ومناقشات، بينما كنّا نقوّم المساهمات والمداخلات توقّف فجأة عن الكلام ، عرك جبهته
– ما بكَ؟ ما يشغلك الآن (قلت)
– عند السادسة سنكون في قاعة البلديّة ، تلبية لدعوة رئيسها بقصد إحياء أمسية شعريّة.
– صمتّ، وراحت الأسئلة تعصف في ذهني ” ماذا يقدِّم شاعر ملتزم هنا؟ ماذا يقول وأنا العارف بموقفه من الحكّام والمسؤولين؟ .
ربّت على كتفي وهمس: لا عليك ، ستكون أمسية رائعة بحسب ما تشتهي، فالناس غير الحكام . أليس كذلك؟ ها أنت مدعوٌّ هنا ، وقدّمت بحثاً يحمل بصمتك وقناعتك والتزامك .
-” ألله ! إنّه يقرأ القسمات بسرعة فائقة. ويعلم سرّ الصمت .
ابتسمت وأدمت النظر إلى وجهه ، فاستعدت صورته البهيّة الموجودة على المكتب ، وذلك الحوار الذي دار بين صديقي الأستاذ خليل الذي وقف يحدّق إلى صورته تارة وإليَّ أخرى ، وعلامات الدهشة ظاهرة على وجهه ، فقال:
— إنّني لا أرى صورة الرئيس في المكتب؟
– عند تسلّمي مهام الإدارة لم يكن فيه صورة،
– وصورة الشاعر الصديق هذه أكانت موجودة؟
– بالطبع لا ،فأنا احضرتها لتكون قريبة منّي ، تذكّرني بنهج صاحبها المستقيم دائماً، مثل سهمه الذي يصيب كبد الحقيقة .
– بمَ تفكّر ؟(سألني)
– في الصورة
– أيّ صورة؟
– سأخبرك عنها فيما بعد.
قلت ذلك ورحت أفكّر:
“ماذا لو طلبوا إليه أن يقول في الحاكم ، حاكم البلد قصيدة؟ ما الذي يقوله شاعر كبير مثله ؟” وسرعان ما ردَّدت في سرّي:
” لا يحقّ لي أن أفكّر في هذا الأمر أنا الذي أعرفه ،وأعرف مقدار صدقه وانسجامه مع مواقفه المشرّفة ، إنّه لن بمدح في هذا اللقاء”
بعد استقبال حار وترحيب كبير، جلسنا في الصفّ الأمامي من تلك القاعة الكبيرة التي غصّت بالمدعوّين الذين تقاطروا مدفوعين بحبّ الاستماع إليه. أمّا المشرف على التنظيم فكانت علامات الحبور طافحة من صفحة وجهه ، والابتسامة لا تفارقه عند كلّ استقبال للشخصيّات المدعوّة، ولتلك السيّدة التي أشرق وجهها بابتسامة غامرة وهي تتوجّه أليه مرحِّبة أيضاً، وتردّد بصوت مسموع:
– ستكون أمسية مميّزة بإذن الله. ستحكي العاصمة عنها كثيرًا . أليس كذلك؟
– هزّ الشاعر رأسه على مهل . ابتسم وقال:
– إن شاءالله!
“إن شاءالله ” عبارة دفعتني إلى التفكّر مليًّا في طلب السيّدة التي تشي تصرفاتها بأنّها مقرَّبة جدًّا… وإلى إلى الظنّ بأنّ هذه السيّدة راغبة في مديح للحاكم ، أو الإشادة بإنجازاته.
هذا ما فكّرت فيه. وضعت يدي على قلبي. قل انتابني شعور غريب جعلني متعجِّلاً ، أكثر من السيِّدة، ومن الحضور لمعرفة ما طلبته إلى صديقي صاحب المواقف الوطنيّة المميّزة في انحيازها إلى الحرِّية والشعوب المقهورة، فقصائده المهداة إلى الجنوب، أرضاً وشعباً، احفظها، و”إسوارة العروس” التي حفرت عميقًا في وجداني ، تهزّ كياني كلّ مرّة أسمعها، وغيرها من القصائد التي تثير في روحي الشوق للتَّلذّذ بسماعها. “هل سيقرأ: إسوارة العروس هنا يا ترى؟ لا أعلم”
بعد تقديم لائق بقيمته العالية ارتقى المنبر. هادئًا كعادته كان، مصحوباً بتصفيق حادٍّ متواصل.
سلّم وشكر ثمَّ شرع ينثر على أرواح الحاضرين عطر مقطوعات غزليّة مزدانة بالصور الأخّاذة… التصفيق الحادّ يتجدَّد، وأنا في حيرة من أمري، أسائل نفسي” أهذا ما طلبته تلك السيّدة، أم أنَّ هناك ما يلبِّي طلبها ورغبتها بعد؟”
الأصوات العالية تشجّع طالبة المزيد.
أمام هذا الانسجام التَّام بينه وبين الجمهور همست ” أنت ساحر يا صديقي . تُتقن فنّ التخلّص في المواقف الصعبة. خفت عليك من تلك السيّدة الراغبة، ربَّما ، في مديح مَن لا ترضى بمدحه، وأعلم مدى انزعاجك من أولئك الشعراء الذين وقفوا بين يدي ذلك الحاكم يمدحونه ، بعد الانتهاء من ذلك المهرجان الشعري. يومها ، عندما أبصرناهم ، من على شاشة التلفاز يقفون صاغرين، أشفقنا عليهم، وسمعتك تلعن الساعة التي حضروا فيها ذلك المهرجان .نعم هذا ما يُبدِّد مخاوفي اللحظة. الحمدلله، نجوت ونجونا من إحراج كبير.
قطع صديقي على المصفِّقين نشوتهم وقال:
– الآن نكون مع بيروت العروس المتروكة وحيدة تصارع ذلك الوحش الذي أنْشَبَ أظفاره في لحمها ذات اجتياح حزيرانيٍّ كبير.
– ” ماذا؟ ” همست في سرّي . نظرت إليه مبتهجاً. سوَّى وقفته. بدا كمن يتأهَّب لموقف جريء يتطلَّب ذلك. تبدَّلت قسمات وجهه. اعتراها عبوس وجدِّيِّة على كثير من الحزم. أعادني إلى تلك الأيّام العجاف التي كانت عاصمتنا الحبيبة، وكنّا نتجرّع معها ويلات الحرب.
– صورة الحاكم المعلَّقة خلفه بدت بشوشة ، وهي تصغي إلى شعرٍ غزليٍّ جميل ، قبل قليل.
أنقل الآن إليكم الصرخة ، صرخة بيروت التي أطلقتها لحظة انقضاض الوحش عليها، والتي وصلت أسماعكم، وغطّت مساحة صحرائكم ، لكنها تمزّقت وضاعت.
بيروت صرخت :دنّس الوحش ترابي ولمَ يكلِّمني أحد. نهبني قتل أبنائي . دمّر أحيائي ، رفعت الصوت . ناديتكم. انتظرت أن تكلِّموني . فلم يكلِّمني أحد. أبنائي دافعوا واستبسلوا ، واستشهدوا خلال المواجهة ولم يكلّمني أحد. أخيراً ولى هارباً يجرّ اذيال الخيبة. بيروت قاومت وطردت الوحش وانتصرت …
لمَ لم يكلِّمني أحد؟
– ألله ما هذه الجرأة ، إنَّه سبق وأطلق هذه الصرخةمع أخرى طويلة مهداة إلى القدس في الأونيسكو- بيروت .
ألقيت نظرة خاطفة إلى المحتشدين في القاعة فأبصرت، ويا لهول ما أبصرت. الأكفّ مسمَّرة متخشِّبة متوقفة على بعد مسافة قليلة من التلاقي . لذا ؛ لم نسمع تصفيقًا. أنا وصديقي المحامي صفّقنا طويلاً في فناء تلك القاعة الواسعة.
الوجوه علاها اصفرار. الخوف مقيم وظاهر وجاثم على حدقات العيون .
مدير الندوة يروح ويجيء ويغربل في مشيته. لفتتني تلك البقعة المرتسمة على بنطاله. لعلّه بال خوفًا . بدا غير قادر على الاقتراب من الشاعر الفارس المشرِّع سوطًا من كلام، من لغة جميلة موجعة ، يلسع به أقفية أولئك الحكام المتلفِّعين بذلك الصمت الثقيل إبّان ذلك الاجتياح الغادر واللعين.
الصورة المعلّقة خلف الشاعر تهتزّ ، توشك على السقوط . إنَّها تتضاءل، يعتري صاحبها احمرار خجلاً؛ عفواً، فالحكًّام لا يخجلون ، (قال ذلك جدّي عندما سرقوا ثوره). قل اعتراها اصفرا.
يا ألله ، زجاج الصورة يشقَّق. ” أيستشعر الزجاج مكامن القوّة في الكلام ، على هشاشة الضعف في مواقف الحكَّام” ( تساءلت هامسًا).
رنين الهواتف المحمولة لا يتوقَّف. المدير منهمك في الردِّ على هاتفه. تشجَّع أخيرًا. اقترب من المنبر وجِلًا. همس في أذن صديقي الشاعر الفارس الذي تابع عمليّة الجلد . أنا ورفيقي المحامي نصفِّق وسط ذهول الحضور الكبير.
دنوت من صديقي المحامي وهمست:
” لن يقدروا على إنزاله. من ذا الذي يجرؤ على إنزال شاعر ثائر ، ومنتقمٍ لوطن استبيح ، ولعاصمته العزيزة التي انبرت تتصدَّى للوحش الغازي وسط صمت قاتل . من؟
انتهى صديقي الشاعر من توجيه سياط حروف قصيدته . خَتَمَ . شَكَرَ الحضور وترجَّل .
الصورة أضحت مقلوبةً، بعدما كشف عريها جريء الكلام. هذا ما تصوَّرته أنا المغمور فرحًا وغبطةً وسرورًا تلك اللحظة النادرة والمشتهاة منذ زمن .
الجمع الغفير تبعثر . القاعة شبيهة مكانٍ وقع فيه انفجار. وَجهُ مديرِ الندوةِ مسكونٌ بخوفٍ شديدٍ ، بدا مرتجِّفًا وهو يودِّعنا.
في السيارة التي كانت تقلّنا إلى الفندق، ربَّت صديقي الشاعر على كتفي وقال:
– كانت ندوة مميّزة أليس كذلك؟
الآن زالت تلك الدهشة التي لم تستطع إخفاءها منذ لحظةِ إخبارِكَ بموعد الندوة .
ابتسمت ، ودنوت من جبينه العالي، قبَّلته، وأخذت أردِّد كلمات قصيدة قالها في ذلك الجبين الناصع:
“ٍوجهي قال بعزٍّ لجبين
لا تاج أغلى
منك، ولا مجدَ أرحبَ أفقًا، وبما إنّك أنت جبيني
أصبح رأسي أعلى” .
في قاعة الفندق جلسنا ، إزاء تلك الطاولة ذاتها، نشرب القهوة ، ونقوِّم ماجريات اللقاء .
قطع جرس هاتف صديقي الشاعر علينا الحديث:
– نعم
– –
– ماذا؟ إنَّهم يطوِّقون القاعة؟ أخبرهم أنّنا في الفندق. لا ، لا ، قل لهم إنّني في الفندق .
أنهى الاتصال والتفت إليَّ وقال:
– وعدتني بإخباري عن تلك الصورة
نعم ، وأنا ملتزم بما وعدت به
في المكتب ، أبصرتُ الصورة ترنو إليَّ .ابتسمت وأغمضت عينيَّ واستعدتُ صورة ذلك الحاكم المثبتة إلى جدار تلك القاعة ، وأخذت اردِّد:
” أجل، من يقلب صور الحكام والمسؤولين ،على اختلاف ألقابهم ومواقعهم، ويعرِّي صمتهم وتخاذلهم عن نجدة أبناء جلدتهم ، جدير برفع صورته وتثبيتها في القاعات والمكاتب ، والنفوس الحرّة الطامحة إلى سياطٍ من حروف قصائد وقصص وأبحاث ومواقف ملتزمة في هذا الزمن الذي بلغ فيه الصراع مداه.