المصدر :النهار يوسف طراد
اختلف الفلاسفة في الصّمت، هل هو حرام أو مكروه، أو أنّه مشكور وممدوح؟ لكنّ خواطر جهاد نعمان في كتاب “فلسفة الصّمت” قالت كل شيئ عن الصّمت، فقد بيّنت الأوقات التي يكون فيها الصّمت أفضل الحلول ومتى يكون أخطرها
نطق المؤلّف الحبّ بصمت، فاختبأت الشّحناء. شكا للرب ظلم الصّارخين بالشّريعة وهم البعيدون كلّ البعد عن روحها. فوجدنا الصّمت حبّاً يتهادي خلال السّطور، بعيداً عن القوانين والشّرائع. هذا الحبّ الذي جعله النعمانيّ بعيداً عن خدمة المجتمع السّياسي أو الدّيني، فنظر إليه حيث هو فوق الشّرائع والقوانين، متجليّا بالصّلب صمتاً. ليس الصّمت مجرّد قصيدة قرأها أشعر الشّعراء لنا، بل هو الحبّ المتجسّد في الحبّ الذي يذوب فيه الإنسان مع الإله الذي تجسّد وانتشله من الخطيئة، “لا يسعنا أن نأمر الله ولكن، يمكننا أن نجتذبه في خلق الأسباب الآيلة إلى شعوره بالرضا، في عقر داره فينا” (صفحة 21). تماثل الربّ بالإنسان، وعاش حبّه ألماً ومجداً. فصلبه هذا الإنسان، لكنّه لم يمت عند الذين تجدّدت حياتهم معه. فكان الصّمت عند المؤلّف حبّاً وحياةً لا يجانسان طبيعة الموت. فمهما كانت شكوى الموتى عظيمة، لا يُنصفون لأنّهم لا يعرفون التّضحية، “دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ اللهِ.” (لو 9: 60)، فالّذي كان على وعي بأنّ الربّ مات من أجل حبّه، أقامه حبّه من موتهم، “يبقى أنّ ذروة جوهرودي، الصبر باقتدار والتجلُّد، وبث الله وحده أمري، والتوفيق، كما الناصريّ، بين الألم والمجد على خشبته، وهذا ممّا لا يصفه قلم ولا يترجمه لسان، ولا ترسمه مخيِّلة” (صفحة 96). كان الأب في حرم المطبعة، يرسم أقدار أطفاله، بالدّعاء والصّلوات والعلم من دون مقابل. لم يطلب من الشّفيع سوى الغوص في بحور القراءة، والمعرفة، والتّقوى، والعطاء، والاستمتاع بالفكر كفيلسوف صالح، فكيف ستكون ذريّته النعمانيّة التي أسبغ عليها نعم المعرفة والعطاء، بصمت طغى عليه صوت الطّباعة؟ يحضرنا هنا قول فلسفيّ لشاعر قرويّ: “ع كعب الدلب بدّو دلب يطلع/ وع شلش التين بدها تقوم تينة”. فالشجر ينمو بصمت مهيب، كصوت الطّباعة الذي أعطى الصمت للقارئ من أجل الاستيعاب. “تواضع والدي كسا صمتي المدوِّي عمقاً ودقَّة.” (صفحة 99). قام مؤلّف هذا الكتاب، بغمرنا بموجات من الحكمة، تحمل بين طيّاتها أفعل وأرقى كلام، فحضن وجع الصّمت في قلوب طيبة، ليصبح الصّوت المدوِّي في أرجاء السّراب، فكان كلامه بجمال صمتٍ ضجّ وراء بابٍ بهمسات الريح، “لا تنبس ببنت شفة ما لم تطمئنّ إلى أنّك ستنطق بما هو أجمل من الصَّمت” (صفحة 121). حُسنُ الأمر، الاستعصام بفضيلة الصمت، وسط هذا الكمّ الهائل، من اللاتوازن في منظومة القيم الإنسانيّة، وفضائل الأخلاق. فكون الكاتب حامل رسالة إلهيّة، توجّب عليه التغيير الداخلي والخارجي بنزاهة وعفافة. لكن عندما يركن للظلم، ليس بحجّة الخوف والهوان، بل لتوجيه رسائل صامتة، يكون صمته فعّالاً، ويجعل صمت الكتاب في صرخة المضمون، “نحن معشر الكتّاب، نتقن فنّ الصمت أيضًا، وتراهم، مع ذلك، يحمِّلوننا أيضًا وزر النوايا” (صفحة 132). “قد نسمع في صمتنا ما نستره في ضجيجنا” (صفحة 183). وكأنّي بالمؤلّف يتحدّث عن المرشّحين إلى الندوة البرلمانيّة، فهم إن صمتوا خلال فترة الصّمت الانتخابي، المفروضة في القانون النّسبيّ، هل يصمتون عن الاتهامات المتبادلة المحملّة بالشّتائم المستترة، أم يصمتون عن عرض البرامج الانتخابيّة الفعّالة من أجل رفعة المجتمع وسيادة الوطن؟ وهل خلال هذا الصّمت يسمعون ما ستره ضجيجهم، من تشرذم في المجتمع من خلال مواقفهم وتصريحاتهم؟ فقد ورد أيضًا في سياق السّرد في الصّفحة 77: “ترى سياسيِّين عندنا يتطاوسون بلا فائدة ويثرثرون في حين أنّ السّياسيِّين في بلاد النَّاس قلَّما يتكلَّمون ويجيدون الكلام إجادتهم الإصغاء إلى أندادهم وشعبهم على السّواء”. متى تصبح السّياسة عندنا، تعمل على تغليب الممكن على اللاممكن، في تناسق خلقي، وتَدافع أفكار ورؤى؟ يقتضي أن تؤنسن الواقع بأدوات التحليل الموضوعي، من خلال مداخلات التمعّن والتدبّر، ومُخرجات الفضيلة والتجرّد الموضوعي، الكامن في أدب الحوار الراقي والكلمة الهادفة. فهذا ليس بالأمر السّهل أو الهيّن عندنا. “فالكلمة في بلادي لا تستحيل جسداً. تبقى مرصوفة في فصاحتها، ربَّما، ولكنَّها قلَّما تصير بلاغة، فالسياسة عندنا لا تتأدَّب.” (صفحة 164). أليس الأجدى بالزعماء أن يبقوا صامتين، قبل وخلال وبعد فترة الصمت الانتخابي، إن لم يكونوا بصفات موصوفة بالكتاب (صفحة 226): “لا زعامة بلا إخلاص، ولا إخلاص في معزل عن ينابيع الرُّوح والضمير الحيّ وإنصاف المساكين والمستصغَرين بعيدًا عن كلّ صراخ وغرور وشغف أعمى بحطام الدنيا.”. جهاد نعمان، لنا صبر اشتهاء كلماتك، انت الّذي قبضت على جمر الثّرثرة، أهديتنا السّلام، وبوح السّماء، واصطفاء الجمال، بكتاب “فلسفة الصمت”. أنت من زيّن الصمت بلغة الفلسفة، فأمطر حبرك في دفء الكلام، واستمرّ الضوء يغزل تنهدات الأرواح، فنبتت فضيلة الصّمت من شوق القراءة.