افتتاحية العدد الخامس عشر
أوطاننا المولودة من رحم الكارثة.
بقلم الأديبة إخلاص فرنسيس
عام مضى، اتفقنا أو لم نتفق مجتمعاتنا اليوم مصابة بقصر النظر وفقر الدم، جفّت العروق، وتيبّست، استحال وعي المكون البشري إلى كتلة خالية من الحرارة، كتلة زرقاء مرمية في غرفة الإنعاش، في انتظار التحلّل العضوي حيث بُترت أوصال الجسد، نظام مفروض على النسل البشري، إذ أصبح للإنسان وجود مختلف ليس فقط في ظلّ الثورات التكنولوجية، والعالم الافتراضي الذي يهدّد بالقضاء على ذاكرة الإنسان وكينونته، وتلك التحولات التي فرضتها الصراعات، والتي عملت على استئصاله من بيئته وتاريخه، استهلكته الحروب، وقضت على الحياة بداخله. كيف يمكن لهذا المتشرّد أن ينتقل إلى العصر الجديد، وهل يمكن عزل السلوك الفردي عن الجماعة، إذ الفرد هو نواة المجتمع وقلبه. أقسى ما يمكن أن يواجه الإنسان هو المضيّ قدمًا ليس فقط نحو المجهول مغمض العينين، كما الدخول في حقل ألغام، حيث يدخل المجتمع مطالبًا بالتفاعل مع واقع مفروض، كيف على كتلة زرقاء باردة أن تتعاطى، وتتعامل، وتلقي حقن التجارب المخبرية في وريده، بوعي رقمي جديد، تغييب العقل، وتحقيق مقاصد الغير. لقد مرّ عام، كان الحيوان أكثر أخوة فيه من الإنسان على أخيه الانسان، لقد تعدّدت المآسي، واختلفت وجهات النظر والاتجاهات في إبداء الرأي فيها، وتبقى قراءة المشهد متوقّفة على الإنسان وبحثه عن هويته حتى في الحجارة الصماء، كيف يمكن للأجيال القادمة أن تتكيّف مع مشهد الدماء، هل تكفي المرونة الفطرية للدماغ البشري أن تسير بنا إلى التفكير بمستقبل الآثار المترتبة على الهوية في ظلّ الحاضر الدامي، وما يتعلّق بعافية الأطفال النفسية وسلامتهم البدنية، وكلنا يعلم أنّ فهم النفس البشرية والبحث في أغوارها هو عملية شاقة، لكنّها ضرورية لتحقيق التوازن النفسي والشفاء من الآثار النفسية التي قد تتراكم منذ الطفولة الأولى.
في هذا الإطار من المسؤول عن الغد في ظلّ ما يعانيه الطفل الآن، وهل يمكن معالجة المجتمع من خلال الفرد؟ الكلّ كما يقول علم النفس متوقّف استبطان الذات الفردية، وهي أحد الأساليب الأساسية التي تمكن الإنسان من التشخيص الدقيق لعقده النفسية، إذ تشكل السنوات الأولى من حياته الأساس الذي تبني عليه شخصيته المستقبلية. التجارب المبكرة، سواء كانت إيجابية أو سلبية، تترك بصماتها العميقة على النفس، الجذور العميقة للمشكلات النفسية التي قد تكون نتيجة لتجارب مؤلمة، أو صدمات عاطفية مرّ بها الفرد في طفولته، بالتالي يكون لها الأثر الأكبر في المجتمع. هل يصدّق الباحثون في العلوم العصبية بقولهم إنّ الدماغ البشري بالتكيف مع البيئة، صغارًا، يقطف الحبق من طفولتهم، يلعبون كلّ يوم لعبة الموت، يشربون العلقم عوض الحليب، ويتفنّنون في صنع لعب الموت، ماذا سنفعل، هل نرفع الراية البيضاء أمام الحقائق العلمية؟ ونبدأ عامنا الجديد في رعاية واعية ومسؤولة لأجنة أوطاننا المولودة من رحم الكارثة.
للتحميل اضغط هنا