أندلس أحمد القادري
أذكرُ، وقد انقطعَ بي الزّمنُ حينَ تُوفّيَ، أنّهُ كانَ خمسينيّ السِّني، فألحظُ للتّوّ، حينَ يعودُ منها، تضاعفَ مشاعرِهِ حيالَ أهلِ البيتِ والقريةِ. ثمّ ألتفتُ إلى ثنيّاتٍ اصطَّفتْ باحترامٍ ووقارٍ أعلى جبينِهِ، وجانبيْ عينيهِ، لتزيدَهما اعترافاً بالنّهاراتِ واللّيالي الثّقلى النَّائيةِ. كانَ عِناقُهُ ممزوجاً بعميقِ الشّوقِ وترهُّلِ التَّعبِ في ساعِديْهِ، وأعلى مَنْكِبيْهِ، وكأنَّ قُبُلاتِ جدِّي – رحمهُ اللّهُ -، القادمِ منَ الغربةِ مزيجٌ من عفوِيَّةِ الكرومِ، وعذوبةِ ” نبْعِ البيادرِ”، وانسحابِ المُغتربِ منْ مسافاتِ البحورِ السّبعةِ. وما إنْ نُكْمِلْ بروتوكول التّأهيلِ والتّرحيبِ،
حتّى أجلسَ في مرْمى عينيْهِ الرَّماديّتينِ، فيُلوّح لي بابتسامةِ الجدِّ لحفيدِتهِ، فأعرف في الحالِ، أنّها الغربةُ، لم تسلبْني مكانتي في قلبِهِ الشّاعرِ الحنونِ.
قدْ قبِلتِ الغربةُ بجدِّي شابّاً في مُقتبلِ العمرِ، وِفْق ما أحبَّ – رحمهُ اللّهُ- أنْ يسْردَهُ على مسْمعي في أوقاتِ الصّفا. فحين كان يجلسُ قبالةَ ” رِيمان”، وهي تلّةٌ قبالةَ بيتِهِ، أحبَّها ونظَمَ لها جميلَ أشعارِهِ:
قُبالةَ ” رِيمانٍ” صفَا العيشُ مرّةً
وكُدِّرَ مرّاتٍ، فما أنتَ قائلُ!
سقَى اللّهُ عهدَ ” الوادِيَيْنِ، وإن تكنْ
لنا فيهما أيّامُ صفْوٍ قلائلُ!
حتّى يسْتعيدَ ذكرياتِهِ في أميركا، فأفهمُ أنّهُ قصَدَ الغرْبَ متحصِّناً بأخلاقيّاتِ ابنِ القريةِ وإيمانِها الصّريحِ ليُساهمَ في دفْعِ العائلةِ إلى الأمامِ نحو البحبوحةِ، إلى الفرَجِ. وكان ممتلئاً بقوّةِ السّاعدِ، واندفاعِ ربيعِ العمرِ، مزوَّداً بثقافةٍ متواضِعةٍ، وتعيشُ فيه روحُ الشّاعرِ الكبيرِ.
عمِلتِ الغُربةُ على سلْب جدِّي أجملَ سِنيْ حياتِهِ، ووهبتْهُ نهاراتٍ ولياليَ مختلفةً عن ” أولئك الأيّامِ”، فلطالما سمعتُهُ يردّدُ
ذُمّ المنازلَ بعدَ منزِلةِ اللِّوى
والعيشَ بعد أولئك الأيّامِ
التزمَ المُغتربُ الشّابُّ، فالكهلُ، ثمّ الهرِمُ بطموحِهِ وآمالِهِ، وطبّقَ في أسفارِهِ الخمسين قوانينَ الهجرِ والحنينِ، فكان يحيا ولا يحيا! يجني المالَ، ويدفعُ بالعائلةِ إلى الامامِ، ويتراجعُ في نفسِهِ الإحساسُ بمُتعةِ العمرِ
كان وحيداً كما أفهمُ من حديثِهِ. تزورُهُ أطيافُ الأحبابِ، فتكثف الوجوهُ، ولا ينسى. يتجنّبُ الخوفَ، ويُهادنُ الحنينَ بأشعارٍ احتوتْها دواوينُهُ الثَّلاثةُ
كان حزيناً في الغربةِ، يُقلُّهُ حزنُهُ كلَّ صباحٍ إلى تعلّمِ لغةٍ ثانيةٍ، إلى حضارةٍ ذاتِ بصَماتٍ مناقضةٍ لوعْيِهِ الّي شبّ عليهِ، إلى مساءٍ يُعيدُه إلى غرفةٍ صغيرةٍ تكادُ تتّسعُ لآلامِ جسَدِهِ المُنهَكِ وفكرِهِ المتجوّلِ المُتعبِ
كان منفيّا تماماً ، لا يقدرُ على أن يقدّمَ لوطنِهِ الكبيرِ المتضائلِ أمام عصفِ المحنِ شيئا ، فكيف يفعلُ وقد حُكمَ عليه بالنّأي؟ أسمعُهُ يقولُ إنّهُ كان يتفاعلُ مع ما يعصفُ بالوطنِ بكثيرٍ من العجزِ ، فلا يلوي على شيءٍ
كان سجيناً في الغربةِ ، رغم عملقةِ ناطحاتِ سحاباتِ نيويورك ، ورحابةِ شوارعِها ، وكثْرةِ إشاراتِ المرورِ ؛ إلّا أنّهُ كان أسيراً خارج الوطنِ ، وإنْ حظِيَ ببعض حريّةٍ في لقاءِ أخٍ قادمٍ من القريةِ
أفهمُ أنّ الغربةَ قدْ تمكّنَتْ من جدّي في كثير من جوانبِ حياتِهِ ، وأصابَتْ بسِهامِها الجارحةِ حناياه فأدمتْه؛ لكنّه تغلّبَ عليها محافِظاً على صدقِ إنسانِهِ وحبِّ عربِيَّتِه،ولم يُغدقْ على نفسِهِ منها إلّا بما اصطفاه منها . يكفي أنّه حين يجولُ بعينيهِ الرّماديّتينِ في لوحاتِ القريةِ ، وبالرَّغمِ ممّا رآهْ من جديدٍ وممّا اختبرهُ من يُسرٍ وانفتاحٍ ، يحْدوهُ الأملُ ليقول
” بْلادنا مصايفْ بس بدْها شويّةْ يُسْر وهداة بالْ”
وأقول : ” لم يحبَّ جدّي الغربةَ قطّ” ؛ فأورثَني حبُّ الوطن
أندلس أحمد القادري
على لسان ” بيان”