بقلم ليلى تبّاني ـــــ قسنطينة ـــــ الجزائر .
هو عنوان لكتاب ، لكنّه ليس كتابا في فنون الطبخ ، بل ما أثار اهتمامي و استثار الفضول لدي هو تواجد الكتاب ضمن رفوف كتب الفكر والفلسفة … رحت أتصفّح الفهرس واسم المؤلّف لأتفاجأ بالحقيقة الصادمة التي لم أكن أدركها ، لم أكن أدرك أنّنا أينما نولّي فثمّة عقل بشري يفكّر ، و وفقا لذلك أينما نغيّر الوجهة يصادفنا بشر يتفلسفون وفقا لطبيعة مجمعاتهم . لكن ما آلمني بالمقابل خلو جناح العرض من القرّاء و ندرة المولعين بالكتب، الأمر الذي يعكس بجلاء البؤس الثقافي والمعرفي الذي ضرب أطنابه على الأقلّ في مجتمعنا، فعلى الرغم من احتواء الرفوف على كتب قيّمة فإنّ الأغلبيّة لا تميّز بين الجيد والرديء، وراحوا يتهافتون على التقاط الصور مع الكتاب والمدّعين لاستعراضها على المواقع .
وفي ظل استفحال هاته الظاهرة المؤسفة التي غيبت المثقّف الحقيقي، وسلخته عن دوره المنوط به ودفعت به للتباهي بالانتماء إلى ثقافة الهامش. بات على المثقف أن يسعى إلى التغيير والتنوير ويبادر إلى حمل هموم الوطن والأمّة ، بما يخلق من تواصل معرفي ، مع اقتناعه التام بأهمية الحوار الذي يقيمه مع ذاته ومع غيره خاصة في مجال الإنتاج الفكري و الإبداعي ، فإذا خرج المثقف من دائرة تشاركية الإبداع والفكر في مجالات لها علاقة مباشرة بالشأن العام، غدت فعاليته الاجتماعية لاغية واهية .
كنّا في خضمّ تلك الأحداث المؤسفة ، نشعر يتما ثقافيا مملوءا باللاّجدوى ، قوامه مثقّفون يمدحون خساراتهم ويتغنّون بتفاهة الشكل وفراغ المعنى ، وها نحن ــــ وبعد ما شهدناه في معرض الكتاب ” سيلا ” من خيبات وحماقات من أشباه قراء ضخّموا أشباه الكتّاب ـــــ أمام حملة مضلّلة تاجرة ، فصنعوا منهم أبطالا يتناحر من أجلهم الوافدون وتتهافت القنوات التلفزيونية على إجراء حوار معهم ، هذا الأمر المؤسف جعلنا نعيش اليتم الانتسابي بعد أن استشعرناه ، والقطيعة المرجعية ، حتّى خُيّل إلينا أن لا حضارة لنا ولا قيم كرّسها السابقون ونحن نرى ونعايش المشهد الثقافي في أسوء فصوله ، تجرّعنا مرارة الرداءة وانحراف الذوق العام ، إلى درجة تواطأ فيها الزوار مع الصحافة والإعلام فوصلت قلّة احترافية القنوات التلفزيونية والاذاعية ـــــ العمومية والخاصة على حدّ سواء ــــ إلى إهمال متابعة أجنحة الناشرين و محاورة الكتاب من ضيوف المعرض بثقل أسمائهم و وفرة منتوجهم الكتابي ونوعية المواضيع والقضايا التي تطرّقوا إليها …
حتّى لا أطيل بكاء المشهد الثقافي وأضمّه إلى رتل المراثي واستعراض الحسرات، أعود إلى لبّ الموضوع، وهو الأجدر بالدراسة والإضاءة، ولا بدّ أن أخوض في متن الكتاب الذي أشرت إلى عنوانه آنفا. هو كتاب قيّم لكاتب ومفكّر جليل.
كلمات مختصرة في حقّ رجل مبدع لا يحتوي قاموسه على مفردات الفشل والتراجع والعجز، فيلسوف من ذهب … لكأنّ مقاربة فيلسوف أرض الذهب معصومة عن الزلل كعقل نسب إليه ولا يمكن أن يكون غير ذلك وهو ينسب إلى المعدن الوحيد المعصوم من الفساد المنزّه عن الصدأ. هو محمّد فال بن عبد اللّطيف، من دولة موريتانيا الشقيقة، شخصية ثرية وذات أبعاد متعددة تجد فيه موسوعية المثقّف الملمّ، وركازة الكاتب المتواضع، وطرافة الأديب المخضرم، ودقة الإداري البارع، ومنهجية الخبير والمصلح الاجتماعي الذي واكب تحولات المجتمع الموريتاني في العقود الأخيرة.
له إسهامات شتّى في مختلف المجالات، برزت من خلال مقالاته الغزيرة عبر المنصات والمواقع الإلكترونية والجرائد الورقية، أمّا فكره الذي يغلب عليه طابع التفلسف فيتجلّى في مؤلفاته والتي من بينها ما حزنا عليه اليوم في معرض الكتاب الدولي “سيلا”، كتاب قيم مثير للانتباه وجدير بالقراءة والتحليل.
إذا تأملنا العنوان ” الفستق المقشّر والأرز المحمّر ” وجدنا أن العنوان ظاهرا بعيد عن المضمون لكنّه رمزا يحمل دلالات شديدة القوة لما أراد
كاتبنا أن يدلي به عبر عناوين نصوصه، وكأنّ ينحى بالعنوان نحو الفيلسوف الفرنسي ” كلود ليفي ستروس ” في كتابه ” النّيء والمطبوخ “
فقد أوضح ستروس في دراسة أنثروبولوجي كيفية تطوّر الفكر البشري من خلال تطوّر سلوكه، وذلك بانتقاله من الطّعام النّيّء إلى الطعام المطبوخ، فتتشكّل الهوّية الثقافية لديه، فهو إذ يتحوّل من تناول الطعام النيء إلى المطبوخ يمثل انتقالا جوهريا من الطبيعة إلى الثقافة، وكان قد سبقه في مسألة تطوّر الفكر والثقافة البشرية، الفيلسوف المسلم ” ابن طفيل ” بعد إشارته الصريحة لتحوّل البشر من النيء الى المطبوخ في روايته ” حي ابن يقظان ” . ورغم مقاربته الشديدة الاقتران والشبه من مقاربة ستروس، فإنّه يؤكّد في مقدّمة كتابه ــــ مستندا إلى طبيعة مجتمعه وشدّة تواضعه ــــ أنّه نزع نحو الأصل وقلّد أهل الذكر، لمّا سمعهم يشبّهون الشعر العذب المطرب الممتع بالفستق المقشّر كما يمتدحون الكلام الرفيع الموشّى بالبلاغة والبديع فيقولون عنه “الأرز المحمّر “، إنّ فلسفة العنوان تقتضي منّا وقفة تأمّلية تفضي بنا إلى القول بأنّ اللّغة تتطوّر وتتهذّب بالموازاة مع تطوّر العقل البشري. وهذا ما شدّني للبحث في فلسفة العنوان، والغوص في متن الكتاب.
وأنا أتفحّص الكتاب وأتعمق في مواضيع عناوينه، أ دركت أنّه ما من شيء مثل الكتابة الفلسفية التي في إمكانها أن تخترع سماء، لا تكتفي بالنظر إلى الأرض من فوق، بل تعيد خلقها. وما فعله المفكر محمد فال.
في كتابه الذي هو محل دراستنا ، صدر الكتاب في طبعته الاولى 2022 عن وزارة الثقافة والشباب والرياضة والعلاقات مع البرلمان ، وقد طبع في هيأة أنيقة بغلاف فخم وورق ذي نوعية جيّدة ، جاءت نصوصه في 167 صفحة ، تناول فيها مواضيع مختلفة استهلّها باستعراض صفات المستشار الأمين، ثمّ تحدّث عن كلابهم وكلابنا وهي مقاربة مؤلمة ، أوضح فيها بمرارة أنّ كلاب أوروبا أكثر حظوة و أوفر عيشا كريما من الفرد الإفريقي البائس ، ومازال كاتبنا يفتق جراحات المجتمعات الإفريقية ليكشف لنا عن عفن أصابها ولا ينفك يرتقها ، حتّى يدخل متاهة أخرى من متاهات البؤس والتهميش في المجتمعات الافريقية عموما والمجتمع الموريتاني على وجه الخصوص ، فالمتأمل لمواضيعه يلمس حسراته وهو يشخّص داءها ويقترح دواءها ، و يؤكّد من خلالها أنّ سبل خروج بلده من دائرة الفشل والهشاشة، إنّما يكون من داخلها ، لأنّ مفاتيح الحل بيد أبناء الوطن أنفسهم، فمسلسل الصمت قد انتهى ، وزمن المؤامرات والأطماع الخارجية التي تستهدف القارة قد ولّى .