كم وددت أن أفهم عدم حبّي للقراءة طوال سنين مرّت، وكم كانت الحروف بعيدة عن منال العقل. لماذا كان الطيش وحبّ القشور في الحياة هما المسيطران؟
لم أكن أعلم ما هو رابط الملل بالقراءة، ولكنّني كنت أعتقد بأنّ الأعمال غير المحبّبة كالمطالعة تؤدّي إلى الضجر.
بقيت الكتب القليلة في المنزل كما هي، ولولا مسح الغبار عنها بانتظام، لعاشت في وحدة مدقعة.
لا أعلم ماذا تغيّر مؤخّراً، حتى أصبحت مدمناً على القراءة؟ لكنّني تذكرت أنّني وُضعت في موقفٍ حرجٍ، وجب عليّ البحث عن طرق الخلاص، ولم يكن ذلك ممكناً بغياب الغوص بأبحاثٍ تتعلّق بالموضوع.
في ذلك الوقت لم أصل إلى مرحلة الاندماج بالحبر، لأنّني كنت أعاني من التهرّب من الكتاب.
وتقبّلتُ الملل واعتدت عليه، وتحوّل السأم إلى شوقٍ لقراءة كتب غير بحثيّة، من روايات ودراسات تاريخيّة وغيرها.
لم أعد أتذكّر متى غاب انقباض عضلات المعدة، لكنّني فهمت أنّ الكتاب الواحد يضاهي علبة “لكزوتانيل”. فربّما كان ملل القراءة ملاذاً لي من الألم.
وفهمت أيضاً مع كلّ كتابٍ أنهيته، ما لم أكن أفهمه. فأصبح ملل القراءة شفاء الجسد وبلسم الروح.
أنا الآن أقاسي ملل الحياة بغياب القراءة، لذلك تيقنتُ من ادّعاءات محبي المطالعة، وأصبحت لي قراءاتي ومقالاتي بكتب فاقت الثمانمائة، في مواقع وصحف مختلفة وأهمّها صحيفة النهار، التي نشرت لي مشكورة أكثر من خمسمائة مقال.
كلّ هذه الكتب، أفكارٌ تعانق أفكاراً!! ونصوص تغدو تسابيح وابتهالات. ها أنا أيّها الحبر، أحتار لمن أطلق قلمي، لأي روايةٍ أو بحثٍ أو ديوانٍ أو لوحةٍ أو عمل مسرحي؟ وليس في جعبتي أفكارٌ تعبّر عن الدهشة بالمحتوى.
ربّما كنت الشاهد الوحيد على ولادة مئات الروايات الّلبنانيّة والعربيّة الحديثة، وعشرات الداوين والكتب النقديّة. كنت أقف على ناصية الحرف، عندما انفجر الحبر شلّالاً من دواتي، وعمّد الورق نقداً وتقريظاً. أعرف تاريخ كلّ كتابٍ ونصٍ وحرفٍ ونقطة وفاصلة وعلامة استفهام…
لكنّني لست الشاهد الوحيد الّذي سيبقى إلى الأزل، عاشقاً للكلمة، وتشغله رائحة الورق عن أغلى العطور؟