أخبار الخليج اليوم عبد الحميد القائد
عبدالحميد القائد
الكتابة التفاعلية .. إبداع أم موضة؟
في عام 1947 نشرت الشاعرة العراقية نازك الملائكة قصيدة “الكوليرا” ونشر بدر شاكر السياب قصيدته “هل كان حبًا”. وكان ذلك تغييرًا دراماتيكيًا في الشعر العربي، على صعيد البناء الموسيقي وتكييف التفعيلة ليكون ذلك ايذانًا بفجر قصيدة التفعيلة. وسواء كانت نازك هي أولى من كتبت شعر التفعلية أو السياب أو علي أحمد باكثير إلا أن المهم أن ذلك كان ثورة في عالم الشعر قلبت كل الموازين وأثارت نقاشات ساخنة على صفحات الجرائد استمرت لسنوات. هذا التغيير أعقبه أو رافقه تغيير آخر ربما جذري على يد الشاعر اللبناني يوسف الخال الذي أصدر مجلة شعر في عام 1957 اشتملت على نوع جديد من الكتابة الشعرية، ايذانًا بحركة شعرية جديدة سميت بقصيدة النثر، حيث أن يوسف الخال كان قد عاد للتوّ من امريكا بعد فترة من اقامته فيها واستعار الإسم من مجلة أمريكية بنفس الإسم. وكان من أهم روّاد هذه الحركة الشعراء ادونيس، أسعد رزوق، انسي الحاج، خالدة سعيد، شوقي ابو شقرا ومحمد الماغوط وغيرهم. وكان بعض شعراء التفعلية يساهمون في تلك المجلة منهم بدر شاكر السياب، لكنه انسحب من المجموعة بعد “الاشاعات” التي دارت حول المجلة وروّاد الحركة بأنها مشبوهة والشعراء مشبوهين، وخاصة أن السياب كان يساري الهوى آنذاك. في ذلك الزمان، زمن المد القومي واليساري، كان من السهل الصاق التهم بأي شخص أو أي تيار ونعته بشتى الأوصاف وبكل قسوة. عمومًا، فإن حركة الشعر العربي وحتى الرواية العربية شهدت مبادرات تطويرية لم تتوقف ولن تتوقف.
ومع انبثاق العولمة وما رافقتها من تغيرات هائلة في الوسائل التقنية والسيبرانية على وجه الخصوص والتي قال البعض بأن العولمة هي محاولة مستميتة من جانب الرأسمالية لحماية وانقاذ نفسها من التهاوي بشتى الطرق، بدأ الحديث يدور حول الكتابة التفاعلية أو الإلكترونية أو الرقمية والاستفادة من الخوارزميات الالكترونية لتسهيل ايصال الرواية أو الكتابة الى الجمهور في خضم الجنون الحالي والتوجه المحموم نحو وسائط التواصل الاجتماعي. ففي العالم العربي نشر الكاتب الأردني محمد سناجلة أول رواية تفاعلية له في عام 2001، وهي رواية ( ظلال الواحد) ، الأمر الذي شكّل نقلة نوعية في عالم الكتابة الأدبية عبر الوسيط الإلكتروني كما قال. وقد أصدر سناجلة عدة أعمال بعد روايته الأولى ليحدث ضجة ما زالت مستمرة بين القبول والرفض مستعينًا بالوسائط الإلكترونية.
مؤخرًا أعدت الباحثة الجزائرية ريمة حمريط أطروحتها التي نالت عنها درجة الدكتوراه، تحت عنوان”سيميائية اللغة والصورة في النص التفاعلي العربي ـ روايات محمد سناجلة أنموذجا”، حيث عالجت من خلالها موضوع النص التفاعلي في سياق الثقافة الرقمية والبعد التقني والتكنولوجي. تقول الباحثة “أن النص التفاعلي رؤية جديدة خارج الورق تحقَقَت مع الثورة الرقمية التي استطاعت الدمج بين الإنتاج الأدبي والوسائط الإلكترونية المتعددة، ليس لإحداث قطيعة أدبية بل لبيان استمرارية التجريب الأدبي مع ما يأخذه من التفاعل مع الثقافة بالشكل التدريجي، لأن في هذا النوع من النصوص لم يكن الكمبيوتر الوسيط التقني المعتمد مباشرة، وإنما ارتبط قبلًا بوسائط تقنية أخرى غيره كالفيلم أو السينما مستفيدًا من مزايا التفاعل التقني بالصوت والصورة والأنفوجرافي.
وتؤكد حمريط “أن النص التفاعلي حقيقة أدبية، وقد ميَّزهُ عصرنا التكنولوجي. وليس غريبا أن يحاول إثبات نفسه على الساحة الأدبية والنقدية ويواجه الهجوم والتصدي، لأن تقبله يعني تقبل تغيير الكثير من المفاهيم المتعلقة بالعملية الإبداعية وكسر الثوابت بالانفتاح على التعددية والمشاركة، إذ لا بد أن نتذكر سيرنا باتجاه التقنية يسرا وطواعية، ممَّا يجعلنا مطالبين بتناول هذا النوع من النصوص والمراهنة على كونه ركيزة مستقبل الثقافة العربية وفضاء للتعبير عن إنسان هذا العصر في كينونته التكنولوجية وعالمه الافتراضي”.
أقتطف هنا بعض أقوال الدكتور عبدالرحمن حسن المحسني، مدير مركز البحوث والدراسات الاجتماعية بجامعة الملك خالد حول الكتابة التفاعلية نظرًا لأهميتها: “القصيدة التفاعلية أو الالكترونية ما زالت محل جدل واسع، كما أنها ما زالت خاضعة للتجريب؛ وذلك لأنها القصيدة التي يمتزج فيها البصري بالسمعي بالتخيُّلي في تداخل جمالي لمنظومة من معطيات التكنولوجيا. يراهن المؤسسون لهذا الشكل على علم الجمال، ويزعمون أنه قادر على ابتكار أشكال جديدة للنص. هذه الأشكال تدمج بين الفنون من ناحية، وتجعل المتلقي مساهمًا فيها مساهمة فعلية من ناحية أخرى. أقول ذلك لأن النص الالكتروني التفاعلي سيكون نصيبه من الشعر/ الشعر، أي الذي يتعامل مع اللغة ممثلة للدهشة قليلة، وسيكون النصيب الأكبر للأدوات الجمالية التقنية الأخرى. من هنا أرى أن ما يظنه بعضهم أنه سيضيف للنص سيسلبه كثيرًا من خصوصيته. أقول خصوصيته؛ لأن هناك ما سيهشمه.. ما سيكسر بناه الداخلية، وما سيتدخل فيه بشكل عميق. على ضوء ذلك أرى أن نصًّا شعريًّا كهذا قد يكون مشوقًا، لكن قد يكون مشوهًا؛ وبالتالي لن يكون ناجحًا على الأقل في الآن القريب. ولو نجحت التقنية في تحقيق ذلك فسيخسر الشعر كثيرًا؛ إذ سينتقل من الإبداع المتولد من المنظومة العميقة لذات الشاعر إلى منظومة إلكترونية لا تشكل فيها ذات الشاعر سوى جانب يسير منها.”
وسوف يستمر الجدل حول هذا الموضوع الذي ربما سيهدد معاقل الكتّاب ومكانة الأدب. وأنا شخصيًا لست ضد التجديد ولكن لدي تحفظ على الكتابة التفاعلية على الأقل في الوقت الحالي، مؤكدًا ايماني بأن التطور والتغيير هما من مقومات العصر ولا يمكن لأحد أن يقف في وجه التغيير فهو أتٍ آتٍ لا محاله ، لأنني مؤمن بأن الكتابة فعل ابداعي يعتمد بالدرجة الأولى على الموهبة الشخصية والثقافة والتجربة.
وأعتقد أن هذه الموجة سوف تلقى رواجًا كبيرًا وخاصة من الجيل الجديد لكن هذه الموجة ربما سوف تسيء للأدب أكثر مما سوف تفيده،وهي محاولة استسهال لعملية الكتابة وفتح الأبواب مشرعةً أمام كل من هب ودب للدخول الى عالمها، موهوبًا أو غير موهوبًا. ويبدو لي أن هذا التوجه يعتمد ويستفيد من شغف الجيل الجديد بالألعاب الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، وهذا أمرٌ بالغ الخطورة في رأيي لأنه سوف يحوّل العملية الإبداعية الى مجرد لعبة وليست عملية خلق وإبداع على الرغم من أن أمثال الكاتب محمد السناجلة وغيره من أصحاب النوايا الحسنة قد استحدثوا هذا التوجه في عالمنا العربي أو يرغبون في مواكبة هذه الطفرة في الغرب ضمن محاولات التجريب المستمرة لإيجاد بدائل مبدعة ومبتكرة، لكن في نظري أن هذا سوف يفتح الأبواب أمام الكثير من المدّعين في الدخول الى الحلبة ليتحول الأدب الى مجرد هزل وتسلية وهذا ما لا نريده بالتأكيد. التجريب في المسار الإبداعي مطلوب، لكن هذا التجريب يعتمد على التفاعلية بين الكاتب والقارىء (المرسل/المتلقي) بتحويل المتلقي الى كاتب والكاتب الى متلقي واضافة صور متحركة والاستعانة بوسائل التواصل الاجتماعي وتحويل النص إلى أكثر من لغوية. أعتقد أن هذه الظاهرة قد تكون خطيرة وتهشّم ما تبقى من جمال الأدب وقدسيته. ربما أكون مخطئًا أو متسرّعا، ربما، وقد يضيف هذا التوجه جماليات لا حصر لها للنص كما يقول روّاد هذه الحركة، ولكن الوقت ما زال مبكرًا، لذلك يجب أن نستقبل هذه “الموضة” بكثير من التحفظ حتى تثبت العكس.