الشاعر هنري زغيب
في الجزء الأَول من هذا المقال، اختصرتُ بداية الموضوع بالمعلومات الأَولية التالية:السيدة هي جرترود فيرنون Vernon (1864-1932). متزوجة من إِندرو نويل أَغْنْيُو. لَقَبُها: سيّدة قصر لوكْنُو Lochnaw. الرسَّام هو الأَميركي: جون سنجر سارجِنْتْ (1856-1925). تاريخ اللوحة الزيتية: 1892. موضوع اللوحة: “الفقر والغنى – جرترود سيّدة قصر لوكنُو”. قياس اللوحة: 127×101 سنتم.
في هذا الجزء الآخَر أُكمل الباقي من قصة تلك اللوحة.
الأُنوثة الطاغية
منذ انتشر خبر اللوحة في الأَوساط اللندنية، انبرى النقَّاد يعتبرونها رائعةَ سارجنْتْ، بما لا يُجارى بينها وبين لوحاته السابقة، فكانت لَمعةَ شُهرةٍ له جعلَتْه في مكان أَرفعَ مما كان عليه سابقًا. ذلك أَن الدقَّة التي بها رسَم تفاصيلَ تلك المرأَة الجميلة من العصر الفيكتوري (الممتدّ، في التاريخ البريطاني، من نحو 1820 إِلى 1914، ما يعادل تقريبًا، لا تحديدًا، ولايةَ الملكة فيكتوريا بين 1937 و1901، وهي حقبة تميَّزَت برفاه الطبقة الاجتماعية وفخامتها وبرخاء اقتصادي ثمين في المملكة). ومن تلك التفاصيل المذهلة في اللوحة: نظرتُها العميقة، أُنوثتها المثيرة الطاغية، ثوبُها الفخم الفضفاض بالأَبيض والليلكي ما يجعلُها، في رؤْية اليوم، دقيقةً كأَنها صورة فوتوغرافية.
وكان سارجنتْ قبلذاك على شهرة واسعة في رسم الوجوه والأَشخاص، في فترة تجمع بين العصر الفيكتوري والعصر الإِدواردي (فترة في المملكة المتحدة عند مطلع القرن العشرين تمتدُّ خلال حُكْم الملك إِدوارد السابع بين 1901 و1910 وتصل حتى بداية الحرب العالمية الأُولى 1914 مع مطلع حكْم الملك جورج الخامس).
اللوحة كما تبدو حاليًّا في متحف سكوتلندا الوطني
الريشة المبدعة
بفضل تلك البراعة كان سارجِنْتْ مقصد أَهل المجتمع البورجوازي طوال نحو من ثلاثين سنة (بين ثمانينات القرن التاسع عشر والعقد الأَول من القرن العشرين). وما زاد من الإِقبال عليه كونه كان فترتئذٍ يتمتع بخلفية دولية دسمة حملَت إِليه مُريدين من دُوَل مختلفة يطلبون إِليه رسمهم بريشته المبدعة.
كانت قفزات نجاحه سريعة بين ولادته في فلونسا سنة 1856 لوالدَين أَميركيَّين، وانتقاله لدراسة الرسم في باريس سنة 1874، ثم انتقاله إِلى لندن سنة 1886، ثم عرضه لوحة “الليدي أَغْنْيُو” في “الأَكاديميا الملَكية” سنة 1893 فكانت منارة له جعلتْه نجمًا ساطعًا في المجتمع البريطاني وجعلَتْ الليدي جرترود شبهَ المجهولةِ شهيرةً في الأَوساط اللندنية. ولا تزال هذه اللوحة حتى اليوم من أَشهر ما في المتحف السكوتلندي الوطني.
سارجِنْتْ بريشته البارعة في التقاط التفاصيل
العينان الثاقبتَان
لعلَّ النجاح كان سلَفًا ينتظر هذه اللوحة الزيتية، منذ رسَمَها سارجِنْتْ في ست جلسات سنة 1892 بقياس127x 101 سنتم، أَي تقريبًا بالحجم الطبيعي، ما جعل لها حضورًا طاغيًا أَمام رائيها. فالرسام أَطلعَها بأَحلى أَناقتها وصباها وفتْنتها وربيعها النضر الثامن والعشرين (1892) حين جلست أَمامه ليَنقل إِلى قماشته البيضاء تأَلُّقَها الطريّ وهدوءَها العميق، مستريحةً على ذاك المقعد الفخم من أَجمل كانَهُ طراز القرن الثامن عشر، أَمام ستارة من حرير صيني ثمين متماوج بين الأَزرق والذهبيّ.
تلْفتُ في اللوحة نظرةُ جرترود الثاقبة بعينَين واسعَتَيْن حادَّتَيْن واثقتَيْن، وهي نظرة لم تكُن عادية ولا مأْلوفة في تلك الحقبة من ثمانينات القرن التاسع عشر إِذ كانت سيدات العصر الفيكتوري على خفَر حيِيّ متواضع. من هنا كانت النساء الأَرستقراطيات في لوحات تلك الفترة ينظُرن خفَرًا صوب الأَسفل، أَو الجانب أَو إِلى أَيّ جهة إِنما لا مباشرةً في عينَي الرائي. لذا كانت لافتةً وغيرَ عاديةٍ، عصرئذٍ، نظرةٌ ثاقبةٌ مباشرةٌ من عينَي سيدة في اللوحة. ومع ذلك لاقت تلك النظرة في تلك اللوحة شهرةً واسعةً في تلك الحقبة.
ما بعدَها غيَّر في النمَط
اعتُبرَت لوحة “الليدي سيدة القصر” فترتئذٍ فاتحةً لمرحلة جديدة من رسم البورتريه بعدذاك، خصوصًا – غير النظرة الحادة – بدقَّة رسم التفاصيل في مظهر تلك السيدة الأَرستقراطية البريطانية بشعرها الأَسْوَد ونعومة بشَرَتها وثنايا ثوبها الليلكية، وقلَّة حليِّها إِلَّا من طوق ذهبي في عنقها وإِسوارة واحدة في يدها. وهذا يتناقض مع ما كانت سيدات المجتمع المخملي عصرئذ يلبسْنَ من حليِّ كثيرة في اليدين والعنق وسط ديكور مزخرف ثريّ فخم.
اللوحة كما يُسوِّق لها المتحف في حملة إِعلامية
شهَرَها واشتهر بها
هذه الزركشات كلُّها غابت عن السيدة أَغْنْيُو، فجاءَت اللوحة بسيطة مثلها، وأَبرزت جمالها الطبيعي الذي لا يُلهي عنه أَيُّ زخرف عليها أَو حولها، فيركّز الرائي عليها لا على ما حولها أَو على ما ترتدي من ملابس وجواهر.
من هنا تبرز براعة سارجِنْتْ في التقاط الجوهري من السيّدة، برسمها في ما سوى ست جلسات (رقم قياسي سريع عصرئذٍ). وهو لم يحتَج إِلى جلسات أَكثر ليُبرز جمالات المرأَة وما عليها، بضربات حاذقة من ريشته وطبقاتها اللونية الشفافة المتتالية، ما يجعل اللوحة شاعرية المناخ كأَنها هائمةٌ في فضاء أَثيريّ عابق برياحين الخيال.
عن موقع النهار