لطفية الدليمي في ثقافية المدى
صديقتي الروائية الشابة
صديقي الروائي الشاب
ليس غريباً أن أتّخذ من كتاب
(الممسوسون بالنار Touched with Fire)
لللكاتبة وعالمة السايكولوجيا الاكلينيكية
(كاي ريدفلد جيمسون Kay Redfield Jamison) عنواناً لمادتي هذه
الكتابة الحقيقية عمل إبداعي لا يهدأ، شأنه في هذا شأن كلّ فاعلية إبداعية، ويبدو المسكون بحمّى الكتابة كَمَنْ مسّته نار آلهة الاساطير ؛ لكنّ عيش حياة إبداعية لايعني التفلّت من كلّ ضابط دليلي موجّه والوقوع في غواية العبثية غير المنتجة
سأتحدّث معكما بصيغة المفرد بعيداً عن البروتوكولات الكتابية المعتمدة بشأن تفريق المؤنث عن المذكّر. سأخاطبكما باعتبار كلّ منكما مشروع كاتب مستقبلي واعد. سأتكلّم مع الكاتب الكامن في كلّ منكما. لاأهمية للميزة الجندرية في الكتابة الابداعية
تنطوي حياة كلّ منّا على ثنائية متلازمة ومتناقضة في الوقت ذاته: تتعاظم خبرتنا في العادة مع تقدّمنا في الحياة ؛ لكنّ منسوب حيويتنا العقلية وكفاءتنا الجسدية يتضاءل بطريقة ملحوظة (رغم بعض الاستثناءات لدى أفراد محدّدين ؛ لكن هذا لايشكّلُ فارقاً ذا دلالة إحصائية مؤثرة !). ماذا يترتبُ على ثنائية متناقضة الخبرة / القدرة؟ واحدٌ من المآلات التي تترتب عليها يكمن في أهمية سماع آخرين: ماذا يقولون؟ وكيف كانوا سيسلكون في حياتهم لو أنّ خبرتهم الراهنة كانت متاحة لهم في بواكير حياتهم؟ ستزيد أهمية هذا الأمر لدى الكُتّاب الواعدين بالطبع
سأختصرُ رؤيتي المترتبة على خبرتي الكتابية في حيثيات محدّدة. ليست نصائح ولاأريدها كذلك. هي شغفٌ عشته معظم حياتي، وسأسعّدُ لو شاركتني به
1. الكتابة الابداعية فعالية مكتنفة بالفردانية: لايوجد شيء عنوانه كتابة ابداعية تشاركية ؛ لكنّ هذا هو مايقتضي فتح الحواس إلى أقصاها وتمثّلَ كلّ الخبرات المتاحة منذ بواكير الكتابة. الخطأ الذي ينتج عن فعالية فردانية هو خطأ شخصي لايمكن تنسيبه لآخرين سوانا، ويقتضي شجاعة تحمّل المسؤولية
2. الابداع ليس موهبة تسبغها السماء علينا ؛ بل هو صنيعتنا : قد يستطيب معظمنا العبارة التي صارت أقرب إلى مواضعة جامعة مانعة، والقائلة بأنّ الإبداع في كلّ أشكاله وحقوله المعرفية إنما هو اندفاعة تتحرّك بتحفيز من التماعة فكرية آنية. شيء أقرب إلى (يوريكا) التي أنطقت أرخميدس وهو يأخذ حماماً ساخناً ! قد يكون الابداع – في كلّ تلويناته – حالة عقلية عصية على الاخضاع للتوصيفات الدقيقة والآليات التي هي أقرب لوصفات الطبخ ؛ لكنّ الامور ليست سائبة النهايات ؛ لأنّ كلّ فعل إبداعي لابدّ أن يكون حصيلة تدريب طويل وشاق يتيحُ للجهاز الفكري البشري أن يبلغ آفاقاً لم يبلغها أحدٌ من قبلُ. لايمكن أن نتوقّع لحظة (يوريكا) أرخميدسية تختارُ أحداً من غير تدريب شاق مسبق ؛ فالابداع في نهاية المطاف ليس منحة مجانية تسبغها الآلهة على أناسٍ متبطّلين. ” العبقرية ليست شيئاً يهبط على الانسان من فوق ؛ بل هي الانسان نفسه “، هذا مايكتبه بتهوفن في واحدة من وريقاته التي أهملها وتركها للنسيان
3. إنتبه ! ليست ذاتك مركز الكون مهما تعاظم حجم خبراتك: تتخذ الحرفة الروائية في العادة نمطاً ممّا يمكن تسميته بالتأريخ الفكري للكتابة الروائية (على نمط التأريخ الطبيعي للموجودات البشرية أو الطبيعية)، بمعنى أنّ الروائي يبدأ في العادة حرفته مستعيناً بواحد من الشواخص الطبيعية الماثلة أمامه، وغالباً مايكون هذا الشاخص شخصاً يمتلك الروائي خبرة يومية معه ( الروائي ذاته وعلاقاته اليومية المشتبكة على سبيل المثال). تبدو هذه الستراتيجية الذاتوية مقاربة آمنة لمن يودّ تجريب الكتابة الروائية في بداياته ؛ لأنه كائن يخشى المآلات اللاحقة لشخصياته الروائية وماقد ينجم عنها من تعقيدات مشتبكة غير محسوبة العواقب ؛ لذا فالتوجّه الآمن له هو إعتمادُ سلسلة مختبرة من التشابكات اليومية (تكون في الغالب نُتَفاً من سيرة ذاتية أو مشهديات تحتفظ بها الذاكرة البَصَرية للروائي). الروائي في هذا الطور من حرفته يخشى الانغلاقات غير المحسوبة، والرواية لديه تكون أقرب إلى طبخة يريد تضبيط مذاقاتها بحسب الوصفات المكتوبة. الروائي في هذا الطور كائن هش رجراج يميلُ لاعتماد سياسة (كل شخصية روائية هي مثال موازِ لشخصية واقعية)، وتلك سياسة التقابل الواقعي التي خبرها جميع الروائيين – كما أظنّ -. لابأس من هذا في بداياتك ؛ لكنّ الحياة أوسع منك، ولن تتسع خبراتك – مهما تعاظمت – لاشباع الحاجات المتطوّرة والمتغيرة للقارئ المعاصر
4. لاأحد منّا جزيرة لوحده. إقرأ كثيراً في حقول معرفية متعددة: إذا أردت تجويد صنعتك الروائية، إقرأ أولاً في الميادين التالية
– تأريخ الرواية
– نظرية الرواية
– تقنيات الكتابة الروائية
– نظرية السرد (الكتابة الروائية هي في النهاية نوع من السرد)
– الأنواع الروائية
ثم انطلق نحو قراءات موسّعة في حقل الدراسات الثقافية والانثروبولوجية والسوسيولوجية.
سيكون غشيماً للغاية من يندفع لممارسة الكتابة عندما يحسبُ أنّ (حدّوتة) صغيرة جالت بعقله – بفعل مؤثر لحظوي ما – تكفي لأن تكون دافعاً لكتابة رواية ناجحة.
5. ارفع منسوب خزينك من القراءات المستجدة: إقرأ الروايات (وبخاصة تلك المعتمدة في المعتمد الأدبي Literary Canon العالمي ؛ لكن لاتكتفِ بقراءة الروايات القديمة والجديدة. نوّع قراءاتك. إقرأ الأدبيات الخاصة بثقافة العلوم (فيزياء، ذكاء اصطناعي، بيولوجيا، هندسة وراثية،،، على سبيل المثال). إقرأ في تأريخ الرياضيات والمنظومات الرمزية لأن الكتابة ذاتها منظومة رمزية تعتمدُ اللغة وسيطاً لها.
6. للرواية أهمية ستراتيجية، وهي مصدر شغف عقلي لايمكن تعويضه بأية فعالية أخرى: إذا لم تشعر بذلك بشكل قوي فلاتجرّب الكتابة. سيضيع وقتك في منشط ابداعي لايحبك ولاتحبه. هل من مقايسة في هذا الشأن؟ نعم. إذا استطعت البقاء شهراً من غير كتابة فاعرف أنّ الكتابة الابداعية الحقيقية ليست لك ولستَ لها
7. إقرأ – مااستطعت – عن تجارب الروائيين: الرواية صنيعة الروائي، ومن الطبيعي أنّ نهتم بالصانع بمثل مانهتم بصنيعه. ليس أفضل من الروائي من يكتبُ عن تجربته الشخصية التي لاتماثل أية تجربة أخرى. قد تتماثل بعض ملامح الصورة العامة للتجربة ؛ لكنّ التفصيلات الدقيقة تختلف. هذه التفصيلات الدقيقة هي مايهمّ أن تعرفه وتتوغل فيه. وفّرتُ في كتابي المترجم (فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة) سلسلة حوارات نوعية مع روائيات وروائيين، تقصّدتُ فيها انتخاب الحوارات التي تكشف عن تلك التفصيلات الدقيقة في حياة كل منهم
8. لاتتصاغرْ أمام الأسماء المكرّسة: التصاغر ليس خصيصة تليق بكاتب يسعى لتحقيق انجاز ذي قيمة. التفاعل الحقيقي هو المسار الأكثر جدوى للطرفين: أنت ومن سبقك من الكُتّاب. لاتعتمد الآراء الجاهزة والمسبقة. إقرأ بذائقة نقدية وبرغبة جدية في استكشاف الآفاق الخفية. الكاتب الكبير ذو الأصالة غير المزيّفة كان يوماً ما مثلك، ولو حصل وتقدّم عليك فذلك بفعل مفاعيل الزمن ومايراكمه من خبرات مضافة. اجتهد ودع جانباً انشغالك بما سيؤول إليه مستقبلك الكتابي. لاتجعل هموم الانشغال بهذا المستقبل تسرق منك لذّة المغامرة الكتابية الحاضرة
لكن إنتبه ! لايعني عدم التصاغر أمام الاسماء المكرّسة الوقوع في وهم استطابة مخالفتهم كلّ حين ومن غير أسباب مسوّغة. ليكن ضميرك المنزّه عن كلّ ضغينة أو حسد أو مناكفة غير منتجة هو معيارك الصارم في التقييم، ولابأس أن تستعين ببعض من تثق في نزاهتهم وأخلاقياتهم الرفيعة
9. الكتابة من أجل الجوائز وصفة سريعة للفشل والخيبة: لاتقعْ في وهم أنّ حاصدي الجوائز الادبية هم أفضلُ الكُتّاب. الجوائز الأدبية – في بيئتنا العربية بخاصة – مستنقعٌ آسن يعجُّ بضروب الفساد والزبائنية وعلاقات التخادم المالي. أكتبْ مدفوعاً بالسعادة التي تجلبها لك الكتابة، وبالخبرات التي تسعى لتمريرها للآخرين. هذه هي أخلاقيات الكتابة. أؤكّدُ لك أنّ كلّ كتابة دافعها الحصول على جائزة هي كتابة مزيّفة. ينبغي للجوائز أن تسعى هي لك متى ماأجدت في أعمالك
10. تعلّم الانكليزية، واسعَ لاتقان القراءات الادبية بها: كلّ لغة نتعلّمها هي عينٌ إضافية نرى بها العالم. نرى تشكّلات وتضاريس ماكان بوسعنا رؤيتها لو اكتفينا بلغتنا الام. اللغة الانكليزية هي السائدة عالمياً في حقول الأدب والعلم والاقتصاد ؛ لذا سيكون من الطبيعي أن تكون مدار تعلّم وفهم وتمكين كلّ كاتب جاد. لاضير من قراءة الترجمات ؛ لكنّي أؤكّدُ لك أنّ قراءة الأعمال الروائية (وغير الروائية كذلك) بلغتها الاصلية تبقى تجربة متفرّدة. لو شاء البعض تعلّم لغة إضافية – إلى جانب الانكليزية – فتلك عين إضافية ستضافُ لعيونه التي يرى بها العالم. كم هو رائعٌ أن يرى الكاتب العالم بثلاثة عيون أو أربعة
* * * * *
أخيراً، يجبُ أن تتساءل دوماً: لماذا أصبحت الرواية ذات شأن حاسم في حياتنا منذ بداياتها حتى يومنا هذا؟ لماذا لم تندثر أو تتآكل؟ ولماذا تلوّنت خارطتها الابداعية بحسب التنويعات المعرفية، وكيف استطاعت إدامة التناغم الفكري معها؟ هذا سؤال عظيم الأهمية ؛ بل أنني أحسبه السؤال الأهم في كلّ الفعالية الروائية الابداعية. لستُ عازمة على تقديم جواب لهذا السؤال (وكيف لي أن أفعل؟!!) ؛ لكن لو دفعك الشغف للبحث الشغوف في هذا الشأن فأحيلك إلى التقديم المسهب الذي قدّمتُ به كتابي المترجم (تطوّر الرواية الحديثة) المنشور عام 2016. ستجد أيضاً خبرة جيدة عن الرواية في كتبي المترجمة الأخرى: الرواية المعاصرة، الرواية العالمية، نزهة فلسفية في غاية الأدب
الرواية خارطة واسعة، وليس بوسعنا سوى الإطلالة على مشهديات صغيرة منها، وحسبُنا أن نقرأ ونطوّر أدواتنا مدفوعين بشغف المعرفة وريادة مناطق غير مستكشفة. الشغف مفتاح كلّ انجاز حقيقي، ومن غيره لن ننتج سوى جثث محنّطة
* * * * *
حياة واعدة مضيئة أتمناها لك، تُسْعِدُ فيها روحك وعقلك وأنت تكتب، بمثل ماتسعِدُ قارئك الذي يستحق عصارة جهدك.