
في زمنٍ تكررت فيه مواضيع الدراما العربية حتى كادت تفقد دهشتها، يخرج علينا مسلسل “بالدم” بنص مكتوب بحرفية عالية، وتوقيع إخراجي متقن، ليطرح أكثر الأسئلة إيلامًا في نسيج المجتمع: من هي الأم الحقيقية؟ وهل القداسة المرتبطة بالأمومة راسخة، أم هشّة قابلة للانهيار عند أول صدمة؟
الكاتبة نادين جابر نسجت حبكة متشابكة كخيوط DNA، تُعيد فيها رسم الجينات العاطفية، الاجتماعية، وحتى الأخلاقية لشخصيات عميقة وقابلة للتطور. الدراما ليست مبنية على الإثارة فقط، بل على جدلية مستمرة بين “المقدس” و”المدنس”، بين الروابط البيولوجية والروابط النفسية، بين الأمهات الحاضنات والأمهات البائعات.
يطرح النص قضايا شائكة كجرائم الشرف، تجارة الأطفال، زواج القاصرات، الفروقات الدينية، الطبقية، والانتماء، دون الوقوع في الوعظ أو الابتذال. الشخصيات ليست بيضاء أو سوداء، بل رمادية، تتغير مواقفها بتغير الظروف.
تميّز الإخراج والتصوير، بتوقيع المخرج فيليب أسمر، بعمل متكامل بصريًا ودراميًا. استطاع أن يوزّع البطولة على جميع الشخصيات دون إضعاف ثقل أي منها، مما أتاح لكل ممثل أن يتقن أداءه ويمنح الشخصية نَفَسًا واقعيًا.
حيث تحوّلت مدينة البترون، بعدسته، إلى فضاء رمزي يُعبّر عن الفوارق الطبقية: الأحياء الراقية حيث تدور الحكايات المثالية، في مقابل الحي الشعبي المليء بالصراعات. استخدام الإضاءة كان ذكيًا: الضوء الخافت خدم مشاهد الجرائم والانكسار، بينما النور الساطع رافق لحظات الحب والمصالحة.
أما الأداء التمثيلي لمعظم الممثلين الذين قدّموا أداءً باهرًا، فكان واضحًا أن الإخراج سمح لكل شخصية بأن تنمو وتتطور، مما منح الجمهور مساحة للتعلّق العاطفي بها. تم نحت الشخصيات بدقة جعلتها قريبة من الواقع، تُعبّر عن آلام وأحلام الناس، فتلقاها الجمهور كأنها مرآة لذاته.
ماغي بو غصن (غالية) تنقّلت بين طبقات شعورية دقيقة: الحيرة، الشك، الحب، الألم، التمرد، والتسامح. كارول عبود (آسيا) تجسّدت في شخصية مأزومة بالذنب والولاء، بينما مارلين نعمان (حنين) قدّمت أداءً صامتًا وقويًا في آن، وأثارت تعاطف المشاهد بصراحتها وطيبتها. جيسي عبدو (تمارا)، بالذات عندما تقمّصت شخصية جميلة، فتاة متورطة بحمل غير شرعي وتحدثت بلهجة الشمال، باسم مغنية، بديع أبو شقرا، وسينتيا كرم بدور عدلة – جميعهم جسدوا شخصيات متكاملة بلا افتعال، وأثبتوا مقدرتهم على صنع مشاهد لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة.
عدلة… والأثر الباقي
شخصية عدلة (سينتيا كرم) نالت النصيب الأكبر من التعاطف الجماهيري، لما تمثله من البراءة المنتهكة، والأمومة المسلوبة، والذاكرة الطفولية التي تعاند النسيان. عدلة ليست فقط “الهبلة” التي تتحدث مع دُميتها، بل هي وجع مستمر لكل من فقد شيئًا لا يُعوّض. غدي، دُميتها، هو ابنها الحقيقي الذي سُلب منها، وجعل منها شخصية تعيش بين وهم الواقع وحقيقة الألم. حضور عدلة في المشهد الأخير، واغتيالها أمام الجميع، كان تجسيدًا دراميًا فذًا لجرائم تُرتكب في الظل، لتكشف حقيقة الجريمة ضد الإنسانية.
فيما طرح المسلسل الثيمات الكبرى التي تمثلت في:
- الأمومة معركة وجودية: من أكرام التي أنجبت خارج الزواج وخسرت ابنتها، إلى جانيت التي ربّت غالية، إلى آسيا التي رُبّيت لتكون كلبة وفية في شبكة إجرامية، كل شخصية نسائية تقريبًا تصارع من أجل استحقاق لقب “أم”.
- الخيانة في أقنعة مختلفة: خيانة المجتمع للنساء، خيانة الأصدقاء، خيانة الحبيب، وحتى خيانة الذاكرة.
- الهوية والبحث عنها: رحلة غالية ليست فقط بحثًا عن أم، بل عن ذات، عن معنى الارتباط والانتماء.
- العدالة خارج القانون: الشخصيات تعيش في واقع مهترئ قانونيًا، لذا يلجأ البعض لاحتيال القانون (غالية)، أو الانقلاب عليه (آسيا)، أو محاولة إصلاحه (طارق).
ما يلفت النظر تلك الرمزية البصرية والسردية، المتجلية في عدة أشياء، منها على سبيل المثال لا الحصر:
- الكرسي المتحرّك الذي تجلس عليه نظيرة ليس فقط أداة تنقّل، بل رمز لسلطة معاقة أخلاقيًا.
- الوحمة في جسد غالية كانت مفتاح الحقيقة، كأن الجسد يُعيد كتابة التاريخ حين تخونه الذاكرة.
- دمية عدلة بمثابة الأمومة المسروقة.
- تحليل الـDNA، بشكل متكرر، وربما رآه البعض ساذجًا، فيما هو شكل من أشكال تلك الهندسة الإلهية التي إذا ما حدثت فيها طفرة ما، أثّرت على كامل وظائف الجسد، وهكذا هي رؤية الكاتبة والمخرج لبنية المجتمع السليم الخالي من تلك الطفرات، وهي ما أظهره المخرج بمعالجة درامية للتيمات.
ترتكز نقاط القوة في العمل على أنه نص غني بالتحولات والمنعطفات غير المتوقعة. وتعدد الشخصيات فيه لم يُضعف السرد، بل عزّزه. كما أن الربط بين القضايا المعاصرة (تجميد البويضات، الطبقية، الإتجار بالبشر) كان واقعيًا وإنسانيًا.
لا ننسى أن الحوارات، بالذات تلك التي شهدت صراعًا حول معنى الأمومة التي أدّتها غالية (ماغي بو غصن)، سواء في انهيارها أمام ابنتها أو لحظة معرفتها أنها ليست ابنة جانيت وروميو، وغيرها، كانت تتماثل مع التأملات السردية التي يحفظها القارئ جانبيًا في دفتر ملاحظاته. وهذا يُحسب للكاتبة نادين جابر.
وهذا لا يعني أنه لا توجد بعض الملاحظات، ففي بعض الحلقات اتسعت الحبكة حتى كادت تفقد تركيزها، خاصة مع إدخال شخصيات جديدة باستمرار (مثل ريمون وقصة الحب القديمة). كما أن بعض العلاقات لم يُتابع مصيرها دراميًا كما يجب، مثل علاقة آسيا ومروان التي انسحب فيها مروان دون أي مواجهة. ابنها عاصي حضر في لحظة درامية عاصفة، حين قررت آسيا، في لحظة صحوة ضمير، الانتحار وتسليم كامل الملفات للشرطة، ولكنه في لحظة احتدام درامي لاحقة، حين تم الإيقاع بـ”أمها المفترضة”، لم يعد له وجود.
بالدم مسلسل اجتماعي كما يُصنّف، إلا أنه تجاوز ذلك وأصبح يمثّل مرآة مشروخة تعكس تمزق القيم في مجتمعاتنا، وتعيد مساءلة مفاهيم لطالما اعتُبرت من المسلمات: كالأمومة، الشرف، العائلة. هو عمل درامي بامتياز، استطاع أن يجمع بين الحرفة الفنية والهمّ الإنساني، وتركنا في النهاية نتساءل: هل الأمومة بقداستها تُورّث بالولادة، أم تُنتزع بالفعل حين تقاتل الأم لتثبت جدارتها، وسط عالم يساوي بين الأمومة والخطيئة؟



تحليل جميل .. شكرا للكاتبة رازان المغربي
كل الشكر لمرورك استاذة هدى
مقال رئع دام ابداعك
تحياتي لمرورك والتقدير
مقال يحمل عمقا روحيا رائعا، شكرا لك كاتبتنا رزان على تأملاتك العميقة وتحليلك الذي يغوص في أعماق العمل. الحقيقة، لم أكن قد تابعت العمل ، ولكن بعد قراءة مقالك، شعرت بشغف كبير لمتابعته.شكرا حبيبتي وصديقتي ،🌷
اهلا بك تحياتي والتقدير لمرورك
لم أشاهد العمل لكن قراءتك هذه بالتأكيد سأذهب وأعود إليه.
شكرا أستاذة
اهلا بك تحياتي والتقدير
لم أشاهد أعمال في رمضان للأسف. لم أعثر على ما يناسبني واكتفيت بالأجنبي والمكرر، لكنّي سأعود لهذا العمل بسبب قراءتك هذه أستاذة!
يستحق المشاهدة تحياتي لمروركم