اسعد الجبوري
وجدناهُ على كتف بحيرة (الزمن الأخير) يمارسُ الصيد بفرح غامر.ثوبٌ أبيض فضفاضٌ مع قبعة قش على الرأس.فيما توجدُ إلى جانبه طاولة صغيرة من المرمر الأزرق ،وعليها كأسٌ من الشمبانيا مع حبات من البازلّاء الطازجة وألبوم ضخم للصور.
ليست تلك كل التفاصيل عن لقائنا بالشاعر والكاتب والرسام اللبناني جبران خليل جبران،ولكنها مقدمةٌ لهيكل سفينةِ الحوار الذي كنا نعدُ لهُ بعد طول زمن شبه معقد. كانت الرغبة أن نفتتح كلامنا مع الشاعر جبران حول الفلسفة الإنسانية والقيم الأخلاقية غير المرتبطة بالأديان مباشرة.لكنه سعى إلى أن نتحدث عن التراب الجغرافي كمنشأ للأرواح عاطفياً، أو كمكوّن للمعرفة الوجودية المولدّة للآداب وثقافات البشر.
بعد أقل من ثوانٍ من وجودنا قربه،سحبَ صنارتهُ من جوف مياه تلك البحيرة،لينضم إلى الطاولة ،حاملاً بعض الأسماك التي كانت من نصيب عمله في ذلك اليوم قائلاً:حتماً ستتذوقون اليوم طعمَ هذا النوع من السمك السماوي على العشاء معي.وحبذا لو كانت معنا دبجانة من العرق الزحلاوي،لكان الوضع هائلاً.
هكذا فاجأنا جبران بتلك الدعوة مسروراً إلى حدّ غير متوقع.فقلنا له :
س/ما الفارق بين ما رأيتهُ هنا وبين ما كنت تعيشهُ في بلدة بشري أو مدينة نيويورك؟
ج/يا لهُ من سؤال !
ومع ذلك فيمكن القول بأنني أرى فرقاً شاسعاً ما بين المكانين.في بشري يمكنُ للكاتب أن يقرأ الأرض تاريخاً وشعوباً.فيما لا يمكن للمرء في نيويورك مطلع العشرينات من القرن المنصرم ، إلا أن يقرأ الوجودَ كتاباً في غرفةٍ مرتعشةٍ بين طلل غيوم مانهاتن .فيما الوضع هنا،فيتسمُ بالبطالة الكاملة .
س/وهل كان جبران خائفاً من تلك الغيوم؟
ج/عندما وصلتُ أمريكا،كانت غيومي معي.
بمعنى أدق:وجدتُ ناطحات السَحاب أفضل وسيلة لغسل جراحي وغربتي بدمع من تلك الغيوم العامرة . يوم ذاك، كانت نيويورك من ابرز مراكز العلم والتكنولوجيا،بعد أن خصّها المهندسون العمالقة بأهم المباني التي أخذت مواقعها في مانهاتن، مثل : مبنى كرايسلر (1931، 319 متر، و 77 طابقا، وبناء تشانين (1920، 215 متر، و 44 طابق)، ومبنى شركة جنرال الكتريك (1931، 270 متر، و 70 طابق، ومبنى امباير ستيت (1931، 381 مترا
س/هل كان ذلك إحساساً شعرياً،قد يحملهُ كلُّ مهاجر إلى ما كان يُسمى بالفردوس الأمريكي ؟!!
ج/ بالأصل . كان هو هكذا. ولكن الوقائع بالنسبة لي مختلفة.فأنا كنت معنياً بقراءة تربتي جيولوجياً على ضوء المتغيرات التي طرأتْ على وجودي الثاني في أمريكا.
كان لبنان تراباً أو تربة مقروءة بالنسبة لي،روحاً وأحاسيس وتاريخاً . فيما وجودي على أرض الفرنجة،فمنحني قوةً تعبيرية لطرح ملايين الأسئلة عن تعاقب الليل والنهار النفسي بداخلي.
س/كلّ ذلك كان يجري بعيداً عن متصرفية جبل لبنان العثمانية ؟
ج/بالتأكيد.فأنا استعدتُ حقوقي من الأتراك في أمريكا بطريقتي الخاصة.دراستي الفن وكتاباتي في الشعر والأدب،كان نوعاً من التأنيب القوي للأتراك على أفعالهم الفاشية في لبنان وسوريا والمنطقة عموماً.
س/هذا الكلام قبل أن تؤلفَ كتابَ ((النبي)) أم بعد صدوره كتاباً ؟
ج/كتاب ((النبي)) صدر عام 1923.وأحاسيسي ومشاعري وأفكاري ضد الظلام العثماني المحتل لبلادي ،موجودة قبل ذلك بكثير،مثلما هي مستمرة وأنا بين طبقات السماء الآن.
س/هل تجد بأن السلطتين العائلية والعثمانية، قد ضغطتا عليك ،لتنمو أو تنفجر تأليفاً في بوتقة التمرد الأدبي ؟
ج/أنا ولدتُ مشتتاً بالمعنى الوجودي :أمٌ مارونية بثلاثة من الأزواج مع كل ما يترتب على ذلك الواقع الاجتماعي من مصائب ومشاكل وكوارث .وأبٌ منحَ حياته للخمر والقمار والدروب التي جلبت للعائلة كلّ الشقاء والمرض والحرمان والكآبة.
س/هل كان ذلك الوضع الكارثي للعائلة،هو الذي تسبب لك ببعض المصائب مع رموز بيئتك في بشري؟
ج/ماذا تقصد؟
س/ ثمة منغمسون بالاعتداء الجنسي على من كانوا بأعمار جيلك، حسبما يقول بعض المؤرخين السريين.ما صحة ذلك برأيك ؟
ج/ هذا كلام افتراضي ،بُني ليكوّن صدىً سيئاً لأوضاع ،كانت مزريةً في وقت عصيب،لم يستطع الجسدُ في أثناءها ،تلمس الحقيقة بوضوح كامل.
كان اغتصاب بعض رجال الكنيسة للغير، لا يُعَدّ من الذنوب الكبرى. كان ذنباً بارداً عند الشعوب القديمة في لبنان،ولم تحدّ منه بعض العقوباتُ الرادعة ،لأنه ( تسلية ) دينية للتفريغ عن احتياجات قساوسة محرومين فقط.
س/هل كنت مشغولاً بشهوة المكان أم الزمان؟
ج/كنت مشغولاً بشهوة الشعر فقط.بشهوة الخلاص من التجاهل والعدم .
س/هل معنى ذلك ،أنكَ كنتَ تشعلُ ناراً في الحواس ّ،لتؤسس لقصائدك الطقوس الملائمة ؟
ج/طالما شعرت بأنني كتلة غير منتظمة في جسد العالم الخارجي.كنت مشبّعاً بنوع من الاحتراق الغريب الذي ما زلتُ أجهلُ مصدر نشأته.
س/أهو الحبُّ مثلاً ؟
ج/لا .ليس الحبّ.لقد كنت مضغوطاً بمادة تشبه البارودَ .
س/ولكن الذين تعرفوا على جبران عن كثب،وجدوه مخلوقاً هادئاً،ليس فيه من البارود، ما يشكلُ خطراً على حياتهِ، ولا على حيوات الآخرين.
ج/من الجدير بالذكر،أنني كنت ضحية هوىً خُيلائي على تلك الأرض.
س/هل كان بسبب سقوطك في حبّ الفتاة (حلا الضاهر) ملهمة (الأجنحة المتكسرة) .أم نتيجة حالات الفراق التي اشتدتْ عليك برحيل الأخت سلطانة وبطرس بمرض السل .وموت الأم بسبب السرطان.كان الحملُ عليك ثقيلاً والحداد مرعباً.أليس كذلك ؟
ج/لقد حطمني الموتُ بتحطيم من كانوا حولي في بيروت في عام 1902،ولم يبق لي إلا أختي ماريانا التي وضعها القدرُ وراء ماكينة الخياطة. كل سلالّم حياتي شائكةٌ ووعرة ومحطمة بعض الشئ.
س/والقلب.ماذا عنه.هل كان مضخةً للدم وحسب؟
ج/لم يمر قلبي بمراهقة مثالية، كما يحدث للشباب عادة.في بعض المرات،كنت أرى قلبي خارج جسدي ،وهو يتسلق شجرة مع عاصفة عابرة.وتارةً أراه يمشي في مواكب الحياة العظيمة دون أن يحسّ بثقل الحطام ولا بقوة الألم.
بعبارة أدق،أنا صاحبُ قلب فلسفي عميق ،مثلما أنا رأسٌ تملؤه الزهور والعواصف ونداءات السماء المفتوحة، بدءاً من قميصي وإلى الربّ.
س/هل على أساس ذلك بنيتَ قصيدتك الشهيرة “أعطني الناي وغنّي” ؟
ج/أنا ما زلتُ منتمياً لعالم الأرواح،حيث تغني الطيور أناشيد العالم وصولاً إلى جوهر الكون الأعظم الذي جاء يسوع من أجله مع بقية الرسل والأنبياء.كلُّ قلب بتراب أسود،هو جزء من النار التي تهدد وجودنا .فمثلما حاولت تنظيف قلبي من شوائب الخراب اللعين،مثلما كنت أخذ بيد العميان إلى منابع النور .فليس المرء غير مخلوق مضحي على الدوام.
س/تتحدثُ كمسيحي نَقِيّ !
ج/لا .أنا لستُ مسيحياً جسمانياً،بقدر ما أنا إنساني على ظهر سفينة مليئة بالبشر،ويكون علينا حمايتها من العواصف.
س/أنت لم تكن هكذا من قبل.كنت محارباً شرساً ضد الدولة العثمانية .
ج/بالضبط .كنت ضد الدولة العثمانية ،وليس ضد الإسلام الذي جعله الأتراكُ عقيدةً مسيسةً لها في أحواض الشعوب التي استعبدتها تلك الدولة الفاشية.
س/لم يستسغ العثمانيون موقفك آنذاك .أليس ذاك ما حدث لكَ في البعيد من الزمن؟
ج/ أنا أكرهُ الدولة العثمانية ،لأنني أحب الخلاص من الظلام ومن المظالم .
ما من ديانة على الأرض ،ستثبّتُ أسسها على الجماجم والخوازيق.الأتراكُ فعلوا ذلك تحت ظلال العَلم العثماني من قبل.وبعدهم جاء ((داعش)) لتفعل الأسوأ الآن .
س/هل على الشعراء أن يكون أفعالاً لغوية مضادة للدم والعنف والكراهية والإرهاب وحسب؟
ج/الشعر برأيي: حوضٌ هائلٌ لغسل البشر من الآلام والمظالم والقهر والاستعباد.
س/تعني الشعر بمثابة غسالة اتوماتيك لتنظيف الناس من العذابات والأحزان وكلّ ما يعكرُ صَفْو الأرواح من إرهاب ورماد؟
ج/أنه كذلك. وقد سبق لي وأن حلمتُ باختراع جهاز شبيه بالغسالات العملاقة لتطهير البشر من كل بشاعة وعنف وعنصرية.الحياة التي عشتها،لم تكن لائقة بالإنسان،خاصة وأن الدولة العثمانية كانت ((شفاطة)) لدماء الناس وأرزاقهم.الأتراك هزّوا شجرة الحياة في المستعمرات العربية التي كانت تحت سلطنتهم،فأكلوا الثمار، ثم أحرقوا الجذع لتدفئة أحذيتهم.
س/ ربما فعل ذلك الجندرمة وحدهم ،دون جماعة أتاتورك العلماني؟!!
ج/((كلنا واحد دون تجزئة)).هكذا أجابني السيد أتاتورك عندما سألته عما فعلهُ المتدينون المتشددون من بعده بتركيا ،مضيفاً أن سياسة حنفية الماء التي تمارسها دولةُ السلطان الجديد،ستفجر الأرض تحت أقدام الأتراك،مما ستتسبب بطوفان أخطر من ذلك الطوفان الذي واجهه سيدنا نوح بزمانه.
س/هل أنت خائف من أن تصل إليك مياه الطوفان ،بينما أنت في هذا المكان السماوي الرحب؟
ج/يكفيني طوفاني الخاص .
س/طوفان ما بعد كتاب ((النبي)) الذي زرعتَ فيه من الأوهام الروحية ،ما بقي عصياً على التحقق .فأفكار جبران لم تجد لها فضاءً لتحلق فيه .كانت أرواحاً بأجنحة متكسرة.ماذا تقول عن هذا؟
ج/لقد انغمست روحياً بأرواح كثر،فجاءني هذا الكتابُ بانفراج للنفس التي كان الظلامُ يتحكمُ بها.
س/أنت في ((النبي)) لم تكن صوفياً،بقدر ما كنت نيتشوياً .ما ردّك؟
ج/حاولت أن أمزج مواد الحياة اليومية للبشر (الحب .الحرية.الرحمة.العمل. اللذة الجمال ..الخ..)) بنفس فلسفي بسيط،كي يلامس أنفسَ الناس بسرعة ودون تعقيد.فيما فعل الألماني نيتشه شيئاً آخر في ((هكذا تكلم زرادشت)) .
س/ما الخط الفاصل ما بين الفيلسوف الساذج وبين الفيلسوف الحكيم برأي جبران خليل حبران؟
ج/الفيلسوف الساذج،يُرجعُ تشكيل الإنسان إلى مرحلة رماد العنقاء.فيما يحوّله الثاني إلى قامة تستغل المعادن في تكوّين ذاته، مقاومةً للتآكل وللعواصف والأكسدة.
س/هل سألكَ الربُّ هنا عن ذلك النبي الذي اخترعتهُ وقدمتهُ للناس على تلك الأرض؟
ج/الله لا يحاكم مخترعٍ على ما ينتجه من خير في الناس، أو من فيض لمياه في صحارى.قُمْ أنتَ بواجباتك الجميلة،حتى يقوم هو بمكافأتك بخياراته اللا محدودة.
ما من ربّ يطلبُ من مخلوقه، أن تقوم بنفض السجاجيد من تحت أقدام عابري الحياة ،بل أفضل ما يريدهُ منكَ، أن تقوم بنفض الغبار والظلمة عن عقلكَ .
س/هل تظنُ أن معالجاتك لقضايا البشر نجحت في موقع أو في مكان ما؟
ج/رسلٌ وأنبياء كثيرون ،لم ينجحوا في إصلاح ملايين من الأقوام الساكنة على كوكب الأرض.ومع ذلك،ما تزال المعارك طاحنة حول ما جاءوا به من كتب ورسائل وشرائع.
ويمكنك اعتبار كتاب ((النبي)) من ضمن الكتب الوضعية التي أثارت جدلاً ما بين العارفين والفارغين من المعرفة.
س/أنت قلت في ذلك الكتاب : “المحبة لا تعطي إلا نفسها، ولا تأخذ إلا من نفسها. المحبة لا تملك شيئاً، ولا تريد أن يملكها أحد، لأن المحبة مكتفية بالمحبة”.
ألا ترى أن الشئ ،إذا ما جرّد من نفسه،لا يكون هو نفسه أو شبيهاً لصورته الأولى في الجوهر؟
أم أنت ترى في سؤالنا هرطقةً ما؟
ج/لم تترك لي أمراضُي مراجعة ما كنتُ دونتهُ في ذلك الكتاب.ولكنني طالما أحسستُ بأنني راهبٌ بعمامة ضخمة،تكاد أن تطيحَ برأسي في بعض الأحايين من شدّة العمل.
س/إذا ما تركنا العمل الذهني لجبران،هل يمكننا القول بأنكَ لم تعمل لكسب لقمتك بنفسك.أكلت الخبز واللحم من كتفي أمك وأختك وكتف ماكينة الخياطة أيضاَ.
هل كنت ممن لا يحبذون العمل في أية صنعة غير الكتابة؟ أم لأنك كنت صغيراً ومعتمداً على الغير؟
ج/أنا وجدتُ الجميع يعمل ،دون أن نحسّ يوماً بالشبع من شئ.ربما ذاك الوضع أدخلنا إلى تلك الأمراض بالتسلسل،ليكتبَ القدرُ لكلّ منا نهايته المبكرة.
أما عن صنعة الأدب،صنعة الكتابة،فهي عمل لم أنتهِ منه حتى بعد موتي كما ترى. أحب ذلك.
س/أحببتَ التأليفَ قبل الانتشاء بالنساء.كيف يحدث ذلك لشاعر رومانسي، بمعزل عن أقوى مصادر الكتابة والإبداع؟!!
ج/أنت تبالغُ في هذا التصور. لقد كان الإحباط في حياتي آنذاك،أقوى من العواطف.وربما لا يعرف أحدٌ بأن جبران عانى من الأشباح أكثر مما كان يعاني منه المرضى النفسيون في المصحات.بل ولم أعرف أنا نفسي ،ولا كيف كنت أديرُ شؤون رأسي والبيت والجسد والكتابة في وقت ،كانت تحتلني فيه الثعابينُ ليلاً دون هوادة.
س/ولكن جبران نَظَرّ للحب،دون امرأة تغمرهُ بحضنها ،أو تفجر فيه اللذّةَ بأبعادها المختلفة! هل كان جبران يعاني من توحش داخلي.من مرض بيولوجي عضال،بحيث ترك النساءَ لتبادل الرسائل فقط،مفضلاً النوم مع وحدته الباردة في سرير فارغ؟
ج/ربما حدث ذلك بسبب الأقفال التي أثقلت قلبي سابقاً .فالحب الذي عشتهُ في ذلك الزمان ،هو حبٌّ افتراضي .أو استشعار عن بعد. وعندما وجدت فيه لذّةً أقوى من اللذّة الجنسية المباشرة،أتحدّتُ به على سرير هادئ من الأحلام الرومانسية التي ذهبتُ بمجراها مثل كرةٍ لهب، وصلتْ إلى خط النهاية، لتنطفئ وأخمدُ أنا في لحدّي.
س/ألا ترى أن الرومانسية العربية متعلقة بحبّ النسوان فقط ،فيما هي غير ذلك عند أهل الغرب كما نظن ؟ ج/ الرومانسية عند الفرنجة معقدّة متجذّرة في البعيد،ربما لأنها خرجتْ من الباطن المتألم المحترق المتعب بعد سني من كفاح الشعوب من أجل الحرية .فيما هي عندنا حفلة (سكس) خاصة بتبادل شهوات الأجساد في غرف حمراء ،تملؤها موسيقى البورنو والشموع والعطور ليست إلا.
ثمة ذنوبٌ ما تزال ثقيلة على أكتافنا ،وعلينا إزاحتها بطريقة تجعل منا رومانسيين في معظم أعمال الحياة ومشاغلها الخاصة والعامة على حد سواء.
س/هل اجتمعت بمي زيادة في منزل من منازل السموات هنا؟
ج/نعم.وأكثر من مَرّة.لقد جاء بها إليّ الشاعر ميخائيل نعيمة بشكل مفاجئ،ساعة كنت مضطجعاً بين زهور عباد الشمس في حقل السعادة القريب من نادي الطيور .تصافحنا بحرارة هناك،وقبلتها على خدها مرتين،شعرت بأنهما كانا ملتهبين ناراً.
س/هل عاتبتكَ على تلك القطيعة التي كانت بينكما على الأرض؟
ج/بالتأكيد .وقالتْ أكثر من ذلك.
س/مثل ماذا؟؟
ج/طلبتْ مني الزواجَ بشهادة ميخائيل، الذي سرعان ما توعدَ أن يدبّجنا بقصيدة غرامية رائعة ،فيما لو تم ذلك الحدث.
س/وهل سارتْ الأمورُ على ما يرام،ودخلتما القفص الذهبي ؟ ج/اقترحتُ عليها أن تشاركني في كتابة رواية نقدمها إلى مؤسسة ((بوكر)) أو ((كتارا )) لنيل جائزة من جوائز الرواية العربية.لكنها سرعان ما تركتني غاضبة ،ومضت متهكمةً من القوائم الطويلة والقصيرة والمُحَدّبة لأسماء المتسابقين.
س/ربما فعلتْ مي زيادة ذلك ،لأنكَ خذلتها للمَرّة الثانية ؟
ج/هذا أكيد.فبينما كانت تحدثني عن الحبّ وعشّ الزوجية ،كنت أنا أحدثها عن لعبة بوكر وروليت كتارا !!
س/ونسيت أنت ترسمها بوتريه كذلك؟!!
ج/لا أعرفُ ما الذي أصابني عندما رأيتها للمرة الأولى. الحق على ميخائيل نعيمة الذي فاجأني بها دون أدنى توقع.ولكنني سأرسل لها قصيدة تودد لاسترضائها .
س/هل ما زلت تشعر بأنك ما زلت ((مصطفى )) الحكيم الذي ملأت كتاب (النبي) بخيال أقوله كشخصية افتراضية لتعميم المعرفة ؟
ج/لا.فذلك الدور الذي لبستهُ سابقاً،انتهى مع طبع الكتاب.
س/وهل حققتْ أفكارُكَ الكنسية من تغيرات حادّة وواضحة في رؤوس الشعوب وأنفسها ؟
أم ما زلتَ ترى الناس أجنحةً متكسرة في التوحش وعدم التسامح والتقهير المتبادل ما بين الديانات والمذاهب والأجناس والطوائف ؟؟
ج/كان القتل مادياً وبشكل عملي من قبل.أما اليوم ،فقد أصبح الموت شَفَهياً وممنهجاً.وتلك نقطة تحول فظيعة،لم يعهدها التاريخ بسالف عصوره.
لذا لم ينتصر أحدٌ لـ ((النبي)) الذي قال أفكاره . دخلوا كتابي وحوشاً،وخرجوا منها مسلحين بالبنادق والمدافع والسيوف والسواطير .فشعوب اليوم،ألفبائيات دم وجماجم وقطع غيار أجسام حافلة بالتمثيل.
س/ قلتَ قبلاً : (( إنّ الحياة تكون بالحقيقة ظلمةً حالكةً إذا لم ترافقها الحركة.)) ماذا تجد الآن في عوالم أهل الأرض،وبخاصة العرب؟
ج/أنا ممتعضٌ ومريضٌ وتعبٌ من وراء البحث عن خلاص لشعوب منطقتنا. لا أجد الحياة في الشرق إلا بركة ظلام،تتحركُ فيها الشياطينُ لنشر الرعب في حقول الرماد.
وفي الغرب،لم أجد نفسي إلا متهافتاً على التمظهر بشخصية ابن الشرق المضاء بالشموس والشعر وكتب الديانات .
س/هل من أجل ذلك كنت تدّعي أمام معارفك في مدينة بوسطن من أنك تنحدرُ من أسرة أرستقراطية غنية عريقة كما كتبَ البعضُ عن ذلك ؟؟
ج/ فعلتُ ذلك كي أنقذ نفسي من بعض مصائب الاغتراب ومصاعبه.أنا انفعلتُ وأنا تضخمتُ من وراء قراءاتي لعظماء الأدب العالمي مثل شكسبير ونيتشه والشاعر كبتس وشاعر أمريكا ويتمان والكثير من نجوم الشعر العالمي .لذلك لم يكن أمامي إلا أن أكون محض قوي.
س/وهل أنت قوي الآن؟
ج/فقط لأنني قرب الله.ولأن ما في رأسي من أفكار ،أصبح من مشاريع الثقافة حول العالم.بمعنى أن الإنسان بات أخاً للإنسان في جسد الكتابة.
س/ولبنان المكان !
ج/ما زال كما نقطة روح في اللوح الجغرافي ،بلدٌ لا يكفّ عن الهرب من مسالك الجسد نحو المرسم الأعظم للحياة على الرغم من ثورته الصامتة كما هي عادات شعوبه ،وكأن نذيراً يخرج من باطن لبنان لينفخ في البوق: بلادكم يا أشباه الأوادم : إذا لم تخرجوا من النوم ،ستكون أجسادكم تراباً رخيصاً بلا معادن .
س/ولكنكَ راهنتَ عليه كحصان أمام عربة التاريخ،ولم يتقدم للأمام إلا بعض أمتار، أفسدتْ عليه حركتهُ على الأرض،فوقعَ في المتر المربع الواحد لا مبالياً !
ج/ لو كنت تعرف حجم ثقل فساد رموزه،لانتحبتَ على الجمهورية الإقطاعية التي على الرغم من جبروتها،لم تمنع الإنسان من التعملّق بالحبّ أو بالرؤى التي تثقبُ الحجابَ،وتتعداه إلى الانغماس بما ينتجهُ مؤلفو الكون من شعر وفلسفة وتصوير وقصّ وحبكة.
س/هل تريد العودة إلى بشري في زيارة خاطفة وطرح أسئلة جديدة، نسيتَ أن تطرحها من قبل ؟
ج/ لا نهاية لكل سؤال.نحن الأسئلةُ المُحِقّة ،وفي دمنا ،تجري مياهُ النبوءات التي لا تعترف بجفاف أو تجفيف .أنا ما زلتُ مسكوناً بالهجرة الدائمة المضادّة لفكرةِ الإقامة أو الاستقرار أو الثبات على أرض مُحَدّدة.
أما بالنسبة لزيارة بشري،فأقول بأن أحياءَ السموات، لا يزورون موتى الأرض، إلا بحالات اضطرارية.وإذا ما قررتُ أن أذهب إلى هناك ذات يوم،فذلك من أجل أن أضعَ على قبري زهرةً،وأعود ببريد السماء الافتراضي إلى هنا ثانيةً .