نورهان محمود راشد
واحدة من أشهر الخدع التي استعملتها الأمهات مع أطفالهن، تهديدهم بأنَّ أنفهم سيطول إذا كذبوا، ولن يتوقف عن الاستطالة حتى ينفكوا عن كذبهم، أو ربما يعشون المتبقي من أعمارهم بصحبة أنوف تُعجِزهم عن لصق جباههم بالحائط، كلعنة لكذبهم. لم تنطلي تلك الخدعة عليّ، ربما لأني أدركت منذ عهد سنوات طفولتي الأولى مصدر تلك الخدعة، في قصة ”بينوكيو” وبالرغم من خيالي الواسع نسبيًا؛ لكني – ولسبب ما – كنت أملك ذلك الخط الفاصل بين القصص والواقع، لاسيّما أنَّ قصة ”بينوكيو” كانت ضمن مجموعة قصصية مكونة من عشر كتب، مغلفة بغلاف سميك من الكرتون، باللون العاجي، ومطبوعة طباعة فاخرة، بألوان مبهرة، كانت من أوائل الهدايا التي أهدتها والدتي لي وأختي، وعكفت عليها سنوات طويلة بطفولتي، ولازلت تأسرني
كانت القصة تدور حول حطاب يعمل بقطع الأشجار ليبيعها حطبًا، وذات يوم رأى شجرة ضخمة ذات سيقان نضرة، فقرر قطعها، وحين ضربها بفأسه سمع صوتًا يقول: “آي آيي”، لكنه لم يدر مصدره، وحين غرس الفأس مرة أخرى، تردد الصوت مجددًا، وأدرك أن مصدر الصوت هي الشجرة ذاتها؛ لكن الحطاب لم يهتم لروح الشجرة المتألمة، ولم يفكر إلا بالمبالغ التي سيجلبها كل جذع من الشجرة له، واختار أفضل جذع بينهم، وباعه لنجار بثمن باهظ، ليحوله النجار إلى دمية متقنة، وبعد الانتهاء منها أصابه التعب، فغادر متجره ليلاً ليفاجأ نهارًا بالدمية تحرك يديها وقدميها وتتكلم، ولأنه رجل يملك قلبًا طيبًا ويعيش وحيدًا، قرر اِتِّخاذه إِبنًا له، وأطلق عليه اِسم ”بينوكيو”؛ لكن الدمية لم ترد الجميل، وكانت مشاغبة، رفضت تعلم القراءة والكتابة، وكانت تحب اللعب فقط. هكذا كان ”بينوكيو” يهرب من مدرسته، ويكذب على أبيه، حتى لاحظ أنَّ أنفه بدأ يطول كلما كذب، والنجار يقصرها له في كل مرة، لكنها تطول كثيرًا حتى أصبح شكله بشعًا، وتجنبه باقي الأطفال؛ فندم ”بينوكيو” على فعلته واعتذر لأبيه، حينها سمعته إحدى الجنيات في السماء، فقررت مكافأته، وحولته إلى طفل عادي، ففرح النجار و”بينوكيو”، ووعد والده بأن لا يكذب عليه مجدَّدًا
هكذا قصتها عليَّ والدتي. ولم أكن لأدع القصة تمر بسلام. كنت أقاطعها كثيرًا لأسأل عن سؤال ما تبرزه الصورة الملونة بالقصة، وحين تكثر أسئلتي وتخرجنا من سياق القصة كانت تجيب أمي بموضوعية قائلة: “دي قصة يا نور، قصة مش حقيقية”. ربما تبدو الإجابة محبطة؛ لكنها كانت ضرورية وقتها، خصوصًا مع إصراري على عدم اِستكمال القصة قبل أن تخبرني بشكل مفصل عن موضع الغابة التي تحوي أشجار تتكلم؟ وأين يقع متجر النجار الذي صنعه؟ وهل يستطيع صُنع واحدٍ لي؟ وقد قضيت ساعات طويلة أفكر بالأمر، وأحاول جمع التفاصيل. وكلما أعدنا رواية القصة تظهر أسئلة أخرى أهمها: كيف يذهب ”بينوكيو” إلى المدرسة وهو دمية بالأساس؟ وكيف يتعلم والدمى لا عقل ولا لسان لها؟ وطالما ”بينوكيو” دمية فكيف لا يحق له اللعب؟ ولماذا حوَّلته الجنية إلى إنسان عادي، أليس كونه دمية هو أمر مميز بالأساس؟
وبعد عامين تقريبًا، اِزداد الطين بلة، حين اِقترحت مدرسة اللغة العربية أن تقص علينا قصة وخيَّرتنا ما بين قصتي ”سندريلا” و”بينوكيو”، ووقع اِختيارنا على ”بينوكيو”، وعندما بدأت تروي القصة قالت: إن ”بينوكيو” كان طفلاً مشاغبًا، كثير الكذب، ودائمًا ما يغضب والدته، فأصابته لعنة حولته إلى دمية خشبية، فلم تتعرف عليه والدته، واضطر إلى مغادرة المنزل، وعثر عليه النجار، وأراد تقطيعه إلى حطب للتدفئة في الشتاء؛ لكنه وجده يتكلم، فقرر بيعه بسعر أغلى لرجل يعمل بالسيرك، ليقوم الرجل بدوره باستغلاله، ويجبره على القيام بعروض لساعات طويلة، ويضربه كلما حاول الهرب. وكان كلما أخبر أحدًا بأنه ليس دمية بل طفل صغير تحول لدمية لا يصدقونه، لاسيما زملائه من الدمى بالسيرك. وكانوا يسخرون منه، لأنه لا يقبل حقيقته. وذات يوم بينما وقف يؤدي عرضًا رأى والدته بصحبة أخيه؛ لكنها لم تتعرف عليه بالرغم من محاولاته ليذكرها بنفسه، ولما يأس قرر الانتحار، وعثر عليه في الصباح بعد ما ألقى بنفسه في النيران ليتحول إلى رماد
كانت تلك قصة ”مس تريز” معلمة اللغة العربية، وعلى ما يبدو أنها كانت غاضبة منا بشدة يومها، ولم ترد إعطاءنا مجالاً للاعتذار. اِرتبكت فور سماعها، ليس فقط لكونها تنافي القصة التي عرفتها مسبقًا، ولكن لقسوتها. خشيت أن أعترض، أو حتى أن أطرح سؤالاً، تجنبًا لغضبها، رغم كونها واحدة من أحب المعلمات لي. ولليال طوال بكيت كثيرًا كلما تخيلت وجهه حين قابل والدته ولم تتعرف عليه
يتبع
برافو يا نورهان ،ماتغبيش علينا كتير تاني ،
وشوقتينا للجزء التاني من بينوكيو.