ريما آل كلزلي
في مقولة لإدوارد نيوتن: “حتّى عندما تكون القراءة مستحيلة، فإنّ الاستحواذ على الكتب يخلق حالة من النشوة”. لو تأمّلنا ذلك الشعور الذي يغمر القارئ عند اقتناء كتب جديدة لوجدنا أنه عظيم جدًا، لكننا نرى بعض الاستثناءات في الاقتناء، فهناك أشخاص يمتلكون مكتبات كبيرة جدًا، تحمل في رفوفها آلاف الكتب، وهذا ما يثير التساؤل كيف لهؤلاء قراءة هذا الكمّ الهائل من الكتب في غضون سنواتٍ معدودة، فما الهدف من جمعها دون قراءتها؟ وهل هناك متعة في الموضوع، أم هو مجرد هوس؟ لم يكن هذا فقط سبب التساؤل! فيما لو تأمّلنا حال الكاتب هل ينطبق الكلام على بعض الكتّاب بإصدار كمّ النصوص غير المدروس لمجرّد الكمّ…؟ إذن كم من كاتب لديه نفس الشعور، ولكن عن طريق حشو مسيرته الفكرية بأكبر عدد يستطيعه من الكتب، وإن لم يكن يحمل معايير نوعية ذات مستوى جيد…؟ فكم منّا لديه متلازمة الببلومانيا أو الببلوفيليا دون أن يعلم حتى…؟ دعونا نتعرف على هذين المصطلحين؛ تاريخيّاً كان مصطلح البيبليوفيليا عبارة عن هوس حبّ الكتب، ففي عصر التنوير مثلا كان الحصول على الكتب ليس بالأمر السهل، لذلك كان جامعو الكتب يحظون بنظرة رقيّ خاصّة في المجتمع، أمّا وقد أصبح اقتناء الكتب أمرًا متاحًا للجميع فقد تغيّر معنى المصطلح، فالشخص الببيلوفيلي في هذه الوقت هو المحبّ للقراءة، المفرط في اقتناء الكتب، هو الشخص الذي يقتني ويقتني ثمّ يقرأ كل ما يقتنيه. هوس الكتب أو داء العباقرة أو مرض المثقفين هو نوع من أنواع الأمراض النفسية أقرب إلى الوسواس القهري غير معترف به على أنّه اضطراب نفسي كنمط سيكولوجي أو سلوكي ينتج عن الشعور بالضيق أو العجز الذي يصيب الفرد
أمّا الببلومانيا فهو ذاك الهوس المرضي الذي يقود صاحبه إلى تجميع الكتب وتخزينها دون الاهتمام بمحتواها في الغالب، لأن تكديس الكتب يُشعِره بالراحة والرِضا. فيجمع كمية كتب تتجاوز بكثير هدف الاستفادة أو التعلم أو التمتع بقراءتها، وأول من أصيب بهذا الهوس هو الشاعر اليوناني يوربيدس. ولنأخذ الكاتب الإيطالي “أمبرتو إيكو” أنموذجاً فهو يرى أن السبب الوحيد خلف تجميعه للكتب (30 ألف كتاب) هو تذكير نفسه دائما بالأشياء التي لا يعرفها، ليس بالضرورة أن ينسحبَ معنى هذه العبارة إلى المكتبات فقط، بل يتعدّاها إلى النّصوص، ويمكننا القول ما أكثر المؤلفات التي لا تَستحقُ أن تُقرأ؟ وذلك لأنَّ المنطق العملي لا يفيدُ في تحديد اختيار العناوين والانخراط في معترك القراءة فقط، بقدر أهمية ما يقرأ، كما أنّ عامل الوقت مهم جدًا، إذا كان يحقُ لأي كاتب البحثَ عن القارئ النموذجي متوسّماً فيه الإمكانية لانتشال نصّه من السبات وتحويله من حالة المعنى بالقوّة إلى حالة المعنى بالفعل، فإنَّ القارئ بدوره له الحق في المُطالبة بوجود كاتب نموذجي يمنحه ما يريد بأقل وقت ممكن. وما يكونُ تحدّياً على هذا الصعيد هو تحديد مواصفات الكاتب الذي يكون جديراً بهذه المكانة، طبعاً إنّ الاختلاف في الأذواق يُصعّبُ الاتّفاق على المعايير المحدّدة بشأن صورة الكاتب النموذجي، فليس المعيار هو غزارة المعلومات
التي يقدّمها الكاتبُ بين طيات مؤلّفاته أو مواكبته لحركة العصر في اختياره للمواضيع التي يتناولها أو أسلوبه الصادم في مخالفة الأفكار المهيمنة على المشهد. فالعلم ما وجد في الكتب والمعرفة هي طريقة تقديم هذا العلم، إذاً يتبدلُ الموقف من شخص إلى آخر بشأن الكاتب النموذجي ولاشكَّ أنَّ الأولوية على المستوى الشخصي تتباينُ حسب المراحل والانطلاقات في هذا المسار اللامُتناهي. لو أصدرت خمسين كتاباً أو طبعت خمسة أعمال في الشعر أو عملاً واحداً، الكم لن يفيد ولن يجعلك شاعراً (الشاعر يكون شاعراً حتّى بقصيدة، الدكتور الناقد خالد حسين) كذلك آرثر رامبو غدا شاعراً عالمياً بعدد من القصائد وكتابين صغيرين جداً، الوحيد الذي تعدّ أعماله بالقصائد و ليس بالمجلدات، 6 قصائد هي، الأبدية، المركب السكران، بربري وعبقري، كيمياء الفعل ، عاشقاتي الصغيرات والسادسة فقراء في كنيسة ، وكتاب إشراقات ، وكتاب فصل في الجحيم . هذه الموضة، موضة الكمّ باتت شهرة ترى شاعراً في الأربعين من عمره وتجاربه الحياتية محدودة وإنجازاته تفوق عدد سنيّ عمره حتى. ولكم في شاعرنا الراحل رياض صالح الحسين نموذج آخر حيث عاش 28 سنة فقط وأصدر خلالها ثلاثة كتب على حياته، (خراب الدورة الدموية، أساطير يومية، بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس) وكتاب وعل في الغابة صدر بعد وفاته وبمساعدة أصدقائه تمت طباعة الكتاب له. مجمل أعماله الشعرية الكاملة 312 صفحة فقط، ومن القطع المتوسط. الخلاصة: يكون الشاعرُ شاعراً حتّى بقصيدة واحدة كي لا تتحول الكتب إلى سلعة لدى مرضى “الببلومانيا”، فالفنّ ليس وسيلة لكسب العيش فقط، بل إنّه الطريقة الإنسانية لجعل الحياة أكثر إنسانيّة، وجمالاً، فلا يكون مقصد الكاتب من تجميع الكتب مجرّد شهرة أو تحقيق نقص في ذاته.