هذا الإستطلاع تأخر كثيراً لأسباب لا مجال للخوض فيها حالياً غير إن لتأخره حسنة هي بيان الصورة المتناقضة التي فرضتها أمس الأول حفلة فنان مصري أقامها في بيروت وحضرها أكثر من 27 ألف شخص علماً بأن ثمن التذكرة كما تفيد المعلومات تراوح بين الـ 300 دولار الى 200 دولار! وهذا ما ينافي تماماً صورة العوز الإقتصادي الهائل الذي بات يرزح تحته المواطن بفعل الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة، إذن كيف يستقيم ذلك شعب يرزح تحت وطأة مثل هكذا أزمة ومع هذا يتدفق الالاف بصورة تبعث على الدهشة ليحضروا حفلاً غنائياً بتذكرة دخول مكلفة جداً؟.. بعد هذا يبدو سؤالنا عن تأثير الأزمة الإقتصادية على المشهد الثقافي في لبنان لا يخلو من التعقيد والإرتباك! .. اللبناني الذي يحرص على حضور حفل غنائي باهظ لا يستطيع شراء كتاب أو الذهاب لمعرض تشكيلي أو أمسية شعرية.. لن استغرق في أسئلتي أكثر تاركاً المجال للمعنيين في مقاربة هذه المسألة من منظورهم الإجتماعي-الثقافي:
تقول الكاتبة اللبنانية غادة علي كلش: “سؤالك يشمل نظاميْن واسعيْن، من ضمن الأنظمة الاساسية التي تقوم عليها الحضارة الانسانية ككل. هذان النظامان يكتسبان أهمية فائقة. فالاقتصاد نظام علمي واسع يشمل الأنماط الاجتماعية والسياسية والامنية والثقافية لكل بلد على حدة. والثقافة بدورها هي نظام معرفي، تتداخل فيه فنون عدة، وترتبط بشكل وثيق بحيوية النظام الاقتصادي.
من هنا فإن الوضع الاقتصادي الخطير المنهار في لبنان، إنسحب تلقائيا على الحراك الثقافي في الساحة اللبنانية، بدءا من حركة دُور النشر، مرورا بواقع المكتبات الخاصة والعامة، على امتداد المناطق اللبنانية، وصولا إلى انكفاء واقع الإستثمار الثقافي، جرّاء تراجُع الدعم الرسمي للأنشطة الادبية والفنية والشعرية والتشكيلية، من جهة، وجرّاء تعثُّر أصحاب رؤوس الاموال الذين كانوا يدعمون الحراك الثقافي، في القطاع الخاص، من جهة ثانية” تضيف كلش” شخصيا، أرى أنّ بيروت العاصمة، لن تستسلم لكل هذا الخواء، فهناك مؤسسات عريقة، لا تزال تؤكد استمرار الحراك الثقافي في لبنان، منها “النادي الثقافي العربي” الذي يحرص على إقامة “معرض بيروت العربي الدولي للكتاب” سنويا في الواجهة البحرية. ومنها “الحركة الثقافية في أنطلياس” التي لا تزال تقيم معرض الكتاب الخاص بها. وكذلك هنالك جامعات كبرى، ما زالت تبادر بين وقت وآخر، إلى إقامة مهرجانات موسيقية ومسرحية وتراثية وشعرية. وكلّ ذلك برأيي هو شعلة ضوء، بانتظار العودة إلى المنارة”.
ولكن لماذا انحسرت ظاهرة الإقبال على شراء الكتب حتى تراجعت دور النشر وأغلقت الكثير من المكتبات أبوابها؟..
يقول الناشر والكتبي غسان شبارو ” نعم انخفضت كميات شراء الكتب بشكل كبير كنا نطبع ألفين وثلاثة آلاف نسخة في الماضي، الآن نطبع ألفا كحد أقصى”. يضيف” لكن للدار العربية شركات شقيقة: واحدة في الإمارات، والثانية هي منصة النيل والفرات الإلكترونية، إضافة إلى مخزن في السعودية، وهي “عامل مساعد لنا أكثر من غيرنا كون منتجنا يباع في الخارج أكثر من دور أخرى”. ويشير شبارو الى أن أزمة دور النشر ليست محصورة في لبنان، بل تتعداه إلى العالم ككل، فـ “هناك دور نشر تغلق في أوروبا وأمريكا”.
وتعليقاً على السؤال عن المستقبل؟ يقول شبارو “نحاول إيجاد مصادر جديدة من خلال مواقع تسويق عالمية”، ويتابع “نعمل من أجل الاستمرار من دون ديون لا بربح”.
أما الأديبة اللبنانية نسرين حرب فتؤكد إنه “مع الأزمات الاقتصادية المتلاحقة أصبح التواجد الثقافي خجولا، ما لم تعتده بيروت وهي التي طالما استقطبت الأدباء والشعراء والفنانين على اختلاف أطيافهم و جنسياتهم وانتماءاتهم، إذ أن هذه الأزمة وهذا الحصار الاقتصادي لم يعان منه المواطن اللبناني العادي فحسب بل طال الكتاب والادباء والفنانين والمعلمين وأساتذة الجامعات حتى أصبح الجميع متساوون كأسنان المشط أمام الفقر والعوز وأضحى كل أولوياتهم تأمين رغيف الخبز ودفع فواتير اشتراك الكهرباء لأصحاب المولدات والماء والطبابة والمدارس في ظل غياب عمل مؤسسات الدولة والضمان الاجتماعي والاضطرابات الأمنية والإضرابات المتلاحقة في المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية إلى حد إلغاء الشهادة الرسمية المتوسطة” تضيف” إذن، وفي ظل هذا السقوط المدوي لدخل المواطن اللبناني صار الكاتب والأديب غير قادر على دفع تكاليف طباعة كتاب ومن ثم تسويقه، وإذا تم له هذا الأمر فسوف يعود عليه وعلى دار النشر بالخسارة لانخفاض القدرة الشرائية للفرد ناهيك عن أن دور النشر لن تقحم نفسها في اصدارات لن تحقق لها الأرباح المرجوة مع هبوط قيمة الليرة في الحضيض أمام الدولار ” وتردف قائلة “أما عن معارض الكتب والنشاطات الفنية والمسرحية فإنها قائمة بجهود ومبادرات فردية بسبب عجز المؤسسات الرسمية عن القيام بدورها البديهي لانعدام الموارد المادية و الأساسية لإطلاق مثل هذه الفعاليات الهادفة”.
للباحث في العلوم الاجتماعية شوقي عطيّة رؤية أكثر شمولية للأزمة الإقتصادية وعدم حصر تأثيرها بالحقل الثقافي، مع ملاحظة النشاطات (الفنية) والغنائية بشكل لافت فيقول ” أنه من حسنات الطبيعة الإنسانية ومن سيئاتها أيضاً أنها تتأقلم مع الأزمات، كما يبدو واضحاً من سلوك اللبنانيين في ظل الأزمة، فمع كل أزمة جديدة، نتوقع رد فعل في وقت يتابع اللبناني حياته وكأن شيئاً لم يكن، مكتفياً بالتذمر عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فهل السبب في انشغاله في تأمين قوته أو لأنه تأقلم مع الأزمة؟ هو سؤال لا جواب مباشر عليه، فبالنظر إلى المطاعم والمؤسسات السياحية، يبدو المواطن غير متأثر بالأزمة، لكن ما يراه الناظر وما هو الواقع أمران مختلفان!! “، ويضيف” على رغم اكتظاظ المطاعم وبيع تذاكر الحفلات بالكامل، هذه الصورة لا تنقل الواقع بما أن عدد الأشخاص الذين يرتادون المطاعم لا يشكل إلا نسبة واحد في المئة من مجموع السكان”متابعاً “ما حصل من أربع سنوات إلى الآن وسّع الهوة الموجودة أصلاً بين اللبنانيين، وأضاف إلى الفقراء طبقة الموظفين في القطاع العام وجزءاً من الموظفين في القطاع الخاص، أما الفئات الميسورة، بخاصة التي تعتمد على عمل خارجي أو عمل في الداخل، فلم تتأثر بالأزمة لأن دخلها بالدولار الفريش (الطازج). كما دخلت طبقة جديدة إلى نادي الميسورين وتتألف من موظفي المنظمات الدولية والمؤثرين على منصات التواصل والتجار والمحتكرين وغيرهم. كل هؤلاء لم يتأثروا بالأزمة وهم محركو العجلة السياسية في البلد”.