إعادة النشر، في ذكرى رحيل الروائي الكبير، جبّور الدويهي.
اِرتمى الوطن خلف غمامٍ قلِقٍ داخل أسوار الفقر والجهل، فالتمعت الأفكار على ناصية إلهام الأستاذ جبّور الدويهي. ولم تغفُ جمرةٌ في حضن البركان، بل تألّقت مدى في سطور رواية (حيّ الأميركان) الصادرة عن دار السّاقي بطبعتها الأولى عام 2014.
حيّ الأميركان، رواية فتحت الباب خجلًا لغياب القيمين على المدينة والبلد دون سؤال. كما فتحت أبواب الشوق للقراءة استجابة لشغف النهاية. اِبتدع الكاتب أسلوبًا آخر لتلك الأحداث التي لم ولن تنتهي. راقصت كلماته البساطة، الفقر، الجهل، الغنى، الزعامة، الأفعال الجهادية والحبّ. اِعتمد أسلوب تعداد الفعل للأبطال، فالرواية اتسمت بوصف الأفعال المتتالية مبتعدة عن وصف الأمكنة إلّا في محطّات تعبيرية قليلة، خاصة في أوائل الكتاب عندما وصف (صعود الأدراج العديدة التي ترسم في الحارة أخاديد تشبه سواقي الماء التي يحفرها ذوبان الثلج على سفوح الجبال). يظهر للقارىء بوضوح أن معظم الجمل السردية فعلية، تبدأ بأفعالٍ متعدّدة، تختلف باختلاف المكان والزمان والشخصيات. بالرغم من التركيز على الفعل، وما ينتج عنه من نتائج إيجابية أو سلبية على فاعله، تظهر الأماكن التي جرت فيها الأحداث واضحة جليّة بغنى عن الوصف، للغاية المتخصّصة بها (إذا صادفتهم صلاة الظهر، يدخلون أحد الجوامع المملوكية الصغيرة). ظهور الأماكن في النصوص، جعلنا نتوغّل في تاريخ المدينة القديم والحديث (قلعة طرابلس، الجوامع القديمة المتعدّدة، سوق الخضار، خان الصابون، سوق الذهب، الأزقّة القديمة الضيّقة، السرايا العثمانية القديمة، مدارس الرهبان والراهبات، دور السينما والمسارح وصولًا إلى الأحياء الأرستقراطية التي انتقل إليها الزعماء وأصحاب السلطة).
أهالي حيّ الأميركان، لم يفترشوا الليل سريرًا لرغبات رومانسية سارحة في العراء الناعم. بل افترشهم ليل اجتماعي أبدي، جعلهم على هروبٍ دائم من حرّاس المدنيّة. التي لم يحاولوا دخولها ولم تعنِ لهم سوى (حصرم في حلب). اِستمرّوا يسرحون على الأدراج صعودًا ونزولًا كقوافل النمل الذاهبة إلى مستودعات سرّية بنشاطٍ موصوف في سطور الرواية.
رحلة (انتصار) من مسكنها في حيّ الأميركان عند (المشنوق) إلى منزل عبدالكريم عزّام يوميًا، صعودًا وهبوطًا، تشبه رحلة حياتها الأليمة. كانت تقطع المسافة سيرًا على الأقدام (لا تريد أن تنحشر مع ركّابٍ يرخون أجسادهم عليها عمدًا أو سهوًا). إمرأةٌ امتهنت الحزن منذ ولادتها. زواجها المذلّ من بلال محسن، الشعور المؤجّل الأحاسيس عند ممارستها الجنس معه، انخراط ابنها البكر في منظّمةٍ جهادية، وذهابه إلى العراق، بتفاصيل رحلة غريبة مثقوبة العناوين ترغيبية دينية، بحجّة نصرة المسلمين، وراثتها مهنة الخدم عن والدتها، استمرارها بالخدمة عند آل عزّام، عدول ابنها إسماعيل عن مهمّةٍ كُلّف بها من قبل جهاديين لا يعرفهم ولا يعرفونه، عدوله عن التنفيذ بسبب سيطرة العواطف الإنسانية، إذ شاهد شبيه أخيه المعاق في القافلة التي ستتلقّى التفجير، عودته السرّية إلى لبنان، ليعيش متخفّيًا في منزل عبدالكريم العزّام، ضياعه بعد هروبه من المنزل. جميع هذه الأحداث، غلبها إحساس الأم الذي لا يخطىء. لم تصدّق انتصار أن ابنها قد استشهد بعد وضع إعلان ينقل صورته وصوته قبيل تنفيذ العملية. لكن الحسرة بقيت تراقص شوقها، لأنها لم تتمكّن من مشاهدته بعد عودته السرّية.
القصّة مدموجة بحياة الفقر والبؤس المسيطرين على مجتمع انتصار وحياة الرفاه التي عاشها آل العزّام، أحفاد مفتي طرابلس، في عصر الثورة العربية بعد الحرب الكونية الأولى. عند سرد الكاتب سيرة النسبة لهذه العائلة، يخال القارىء أنه في عالم الأمجاد (كبير العائلة المنسوبة في الوثائق التاريخية إلى تنوّخ بن قحطان بن عوف بن كند بن جدب بن مذحج بن سعد بن طي بن تميم بن المنذر بن ماء السماء). كما سرد طفولة عبدالكريم التي لم يتمتّع بها، بسبب إبعاده عن أولاد الشوارع وتصرّفاتهم السوقية. وقصّة سفره إلى فرنسا وغرامه براقصة باليه هجرته عند حملها منه، وعودته خائبًا إلى مسقط رأسه.
خلال زمن الوصاية كما كان البعض يسمّيه، مارس الاحتلال أبشع أنواع القمع من قتلٍ وتهجيرٍ وتدمير. هذا الجيش المحتّل، الذي اعتاد اللهو شقاوة في بلاده، لم يكن يعلم أن وحول المدن الأبيّة تجعل الجناة حبساء العفن وراء قضبان الظلام والانتظار الرمادي. كما لم يكن يعلم أن اللبنانيين يستمتعون بالحرّية كالخبز اليومي رغم فقرهم، يعشقونها عشق جبالهم للريح والشمس والعواصف. يكفي أن يمرّ القارىء على مقطعٍ واحد ليتيقّن مدى العذاب والألم الذي حلّ (توقّف الممرّضون المسعفون عن العدّ، امتلأ البرّاد بالموتى، فكدّسوا الجثث خارجًا في أكياسٍ من النايلون على الرصيف المقابل). ذاك المحتلّ أو غيره لا يعلم أنه لا يستطيع شراء العوام كما اشترى شيخهم الذي سمّى (سقوط الشهداء وتدمير الأحياء وعذاب الاعتقال معارك جانبية).
ربما يكون هدف الكتاب تمكين الفقراء من دوام التحامهم المجدي مع بعضهم، الذي يصبّ في دعم الأكثر تهشيمًا بينهم، المتروكين لاكتئابهم، خوفًا من الاضطهاد الاجتماعي الذي يصل إلى التشرّد بالإضافة إلى التهميش الديني والسياسي والسيادي. لأنهم مقتنعون أن ساستهم لا يبالون بهم، فلماذا لا يثورون كما حصل في ساحة النور بعد 17 تشرين.
لا تسألوا مشاعر الأمومة المتأرجحة بين الأرض والسماء هلعًا على أبناءٍ خطفتهم حياة مرتحلة إلى غير رجعة. هي هي المشاعر نفسها، إذا راجعنا رواية الكاتبة بارعة الأحمر (تانغو في بيروت) التي وصفت هذه المشاعر عند امرأةٍ غنيّة تبحث عن ابنها الذي ذهب إلى الجهاد، نجدها تتطابق مع مشاعر انتصار الفقيرة رغم تفاوت الإمكانات المادية في سبيل البحث. بالرغم من كلّ شيء ستزول تجارة الدين والفقراء. ستعود طرابلس إلى سابق عهدها المشرق، عندما كانت مركز اتّحاد الأمم الفينيقية، حوالي القرن الحادي عشر قبل المسيح، حيث اعتبرت أول عاصمة اتّحاد أممي في التاريخ.
حدّد جبّور الدويهي العطل الانجرافي للجسد بفعل الفكر المحدود والرغبات العوجاء لدى الشرقيين، مقابل سمو الروح والقيم. أخذنا إلى فسحةٍ أدبية، جعلتنا ندرك بؤس الحياة، مع الهالكين خوفًا من غدٍ وعمرٍ ضال يعيشونه بالندم، مقارعين العقول المأسورة لكبرياء المراكز والمصالح الخاصة.
ي
وسف طراد
(الثلاثاء 21 نيسان 2020)
المصدر موقع النهار