تحليل بليغ وعميق لقصيدة ” الساهرون وحدهم “، الكاتب الجزائري الدكتور مصطفى ولديوسف ، صاحب القلم الجزيل، ومؤلف العديد من الكتب والأبحاث في مجال الشعر والرواية.
في ما يلي نص المقالة:
*******************
شعرية”الوحدة”في قصيدة “الساهرون وحدهم “
للشاعر “خضر حيدر”
في متابعاتي لنصوص الشاعر اللبناني”خضر حيدر” استوقفتني قصيدة “الساهرون وحدهم”في بعدها الفلسفي والجدلي؛حيث هناك حالة استنفار حول دور الفرد في بناء الغد ،وهو ملتزم بعالمه الداخلي حصرا،في تكريس علني لفلسفة تغييب الآخر.
تتأكد “شعرية الوحيدة ” كواجهة بلاغية على مستوى بنية الخطاب الرومانسي؛حيث الحنين إلى العزلة كمنفى للحواس، في مقابل الصخب وعنف العالم :
الساهرون وحدهم
يحصون أنفاس المساء
وابتسامات النجوم الساخرة
لكنهم لايشعرون.
في ملفوظاتية استحضار زمن”الرومانس” رمز مكرس لوحدة السكون ،بعيدا عن ضجيج الواقع، ورحلة تأمل لم يعد لها وجود في الطبيعة المبتورة،فمسألة بقاء صور البهاء غير واردة في دفتر الإنسان المعاصر.
كيف تكون هناك رومانسية،وخراب الطبيعة رمز العصر؟ !:
لكنهم لايشعرون
في غياب الوعي بالآخر ككائن مهدد في وجوده، يستمر زيف الرؤية :
الساهرون وحدهم
لا يتعبون
إن هزهم كف المنام تساءلوا
أين السبيل إلى جعل الحياة متاهة…؟
لا أحد يبالي بصداع الطبيعة،ولا بمصير المجتمع ،وهو في حالة تفسخ متقدم للقيم..قيم التواصل والإخلاص، فالوحدة انغلاق على الذات كسبيل وحيد لنفي الوعي الاجتماعي قسرا ،والإحساس بالآخر، الذي يئن متوجعا من حالة الإهمال المعنوي :
الساهرون وحدهم
يدللون وحدتهم
حتى إذا مرت بهم في السر وحدة أخرى
هبوا كمن أصابهم مس
وهم لا يعلمون
أن الوحدة أيضا تخون!
في غياب الحضور الاجتماعي،يموت الإنسان كفاعل تواصلي ومنتج للعلاقات، فوظيفة الذات الواعدة الإنصات للآخر في محور الاختبار والتشارك الاجتماعي،لبناء مجتمع تآلفي؛ ولكن عندما تكون الذات قد تصورت نفسها بأنها مكتملة، يكون النفي الفكري والروحي، ومن ثمة يتم تصفيتها اجتماعيا.
كشفت القصيدة عن وحدة الإنسان في عصر الفردانية المقيتة وتقديس “الأنا ” كمركز حيوي للحياة؛ فالأنانية المفرطة جعلت من الفرد المعاصر كائنا مسلوب المشاعر، وفارغا روحيا؛ فالكائن الرومانسي لا وجود له…إنه مزيف،في زمن خطابات الزيف والافتراض ؛فلا أحد يصغي للطبيعة ،وهي تحتضر، ولا أحد يتحدث مع الآخر بوصفه امتدادا اجتماعيا وثقافيا له.
لقد رسم الشاعر صورة الرومانسي الزائف في عصر مسكون بالمادة والاغتراب، موظفا لغة غير معيارية،ذات حمولة فلسفية، وزاهية بألوان مجازية عميقة منها : “يدللون وحدتهم”،”هزهم كف المنام”…متحدية ضروب التقرير والخطابية الجافة.
في القصيدة سلاسة،وهي على إيقاع الهمس في صمت الوجود ،وخيبات الإنسان المعاصر،فيها تشخيص للمعنوي في صورة امرأة،تائهة وسط أدغال مظلمة…وحيدة تفتش عن إجابة لزمن فقد الشعور بالآخر، فالتزم الوحدة كمبدأ، فضل سبيله. (مصطفى ولديوسف )