ان تتبع (التحولات الملموسة) الماضية للرسام العراقي المغترب في كندا هاشم حنون، والتي تمتثل لما يسميه جورج كوبلر (المتتابعات الشكلية)، وكيف كانت المراحل تسلم نفسها الى تاليتها، مما يمنحها تتابعاً تاريخياً، بعد أن امتلكت استقرارها، ووضوحها الرؤيوي والدلالي، بعد إعادة وضعها في مكانها المناسب من المعاينة النقدية، وهو ما يعمق مقاربتنا أكثر.
ومن أجل الاختصار فسوف نترك الحديث عن بدايات تجربته الفنية، وترسخ قناعته بالرسم التعبيري باعتباره أهم خيارات الرسم العراقي، إلا أن أهم تحولاته الاسلوبية حدثت بتأسيسه نمطاً جديداً من (التشاكل الصوري) مع مشخصات الواقع المديني، منذ معرض (مدن ملونة)، وهو أهم معارضه التي أقامها في عمان عام 2002، فكانت تلك التجربة مؤسسة من علامات المدن، واكتظاظها بموجوداتها وساكنيها ليس فقط مما جمعته الذاكرة، من (علامات المدن) بل ومخزونات مما رسمه الآخرون عنها.
يؤرخ هاشم حنون لمسالك المدينة، وما مطبوع على جدرانها، وأرضيات أرصفتها، وإسفلت شوارعها، وسحنة وجوه ساكنيها، وملابسهم، باعتبارها المكونات الهامة من جغرافية محيطهم، وما تركته أقدام (المتجولين الدائمين) من أثر غفل في شوارعه.
لقد جاء معرضه (مسلات الطين)، ليودع تجربة (المدن الملونة)، وكان بفعل تغير جذري في فهم دور السطح التصويري، ليس باتجاه التجريد فقط، بل باتجاه تحقيق أكبر اقتراب من المادة، واعتبار اللوحة حقلاً (سطحا) مسكوناً بالأصباغ والخطوط والأشكال تخضع لضروب تجارب الفنان الشكلية والتقنية، فتكون اللوحة شيئاً، أكثر من أن تكون تشبيها لشيء، فكانت ملصقاته من نسيج حائط، وقطعة جنفاص عتيقة متهرئة، أو مقطع عرضي أخضع لمعاينة مجهرية، باعتبار ذلك استعارة لمادة جاهزة نصف مهضومة (ردي ميد).
ورغم حرصه الواعي على إخفاء (مصادره الواقعية) ، إلا أن مصدر الشيء اب (بصمة الواقع التي لا تمحى) تكون قد تركت (علامة لا يمكن إزالتها) ، لأنها (الجرثومة الطوبولوجية) التي هيكلَ الفنان بناءَ لوحته عليها بطريقة لا واعية منذ وضع أولى لمساته على سطح اللوحة، وقد يكون تمكن من قمع تفاصيل محددة من أجل إفساح المجال للمتلقي أن يردم الفجوة بإضافة عناصرها المكملة، وبذلك لا يختزل هاشم حنون تاريخ المدن التي وطأتها قدمه فقط، بل وتاريخ الرسم العراقي (المديني) منه بشكل خاص!.
تختفي الشمس ويختفي الضوء من مدينته الحجرية، ويهيمن الظلام الأسود الفاحم بقوة.. في معرض (مسلات الطين 2004) وتنبني التجربة من مهيمنتين: الطابع الحجري حيث الطين الجاف او المفخور، والوجود البشري ، فكانت مزيجا من المدن الملونة التي عايشها هاشم حنون في صباه، والمدن الحرائق التي أفنى شبابه في حرائقها، والمدن الحجر التي انتهى إليها مقيماً خارج العراق.
أقام هاشم حنون معرضه ( مدن الحنين) (Nostalegic cities) في (دار الأندى/ عمّان)، فكان ذلك المعرض فرصة لمعاينة آخر تحولات المدن التي استوطنت ذاكرة هاشم حنون، مدن التي عاشها أو عايشها، فصارت جزءاً من الذكريات وحنينها، فكانت تتنوع، وتتحول لتؤطر مراحل الرسام، وأول وأهم تلك المدن التي لا يمكن بناء صورة (نسخة) مماثلة لها هي مدينته (البصرة) التي عاش فيها طفولته وسنوات شبابه، ثم هاجر منها، فلم يتبق منها ما يستحق المعيش في الحاضر فيضطر الرسام الى ترتيق صورتها من بقايا ذاكرته.. هنا تتحول مدينته (البصرة) الى بقايا صور نستلها من الذاكرة الشخصية، أو تتحول الى بقايا نصوص نستلها من كتب الكتّاب والرحّالة الأجانب الذين كتبوا عنها، والكتاب العرب كالجاحظ، والمعتزلة، وإخوان الصفا، وأشعار بدر شاكر السياب، وقصص محمد خضير..
إن مدينة هاشم حنون التي انطبعت في القعر العميق لذاكرته ليست الا:
أطلالاً في الواقع المعيش.. وذكريات في خواطر مواطنيها.. ومدونات نجدها مسطرة في الكتب!..
لقد تنوعت معالجة الرسام هاشم حنون لأعمال مدنه، التي شهدت تحولات بعد رحيله عن مدينته البصرة ،وبعد خرابها؛ كانت الألوان الأحادية وترابية، وتنطوي على ملصقات من أكياس السواتر التي كانت تحيط مدينته، وقد كتب عنه وقتها ثلاثة من كتاب البصرة حينما عرض معرضاً في قاعة حوار عام 1994 على ما أتذكر، عندما أنجز أعماله في البصرة، فكتب عنه القاص محمد خضير والمرحوم الشاعر حسين عبد اللطيف وكاتب السطور (خالد خضير الصالحي)، وها هي ذاكرته تنتفض الآن لتستعيد ألق المدن الملونة خلال إقامته الأولى في عمان، وبعد هجرته الى كندا، وما طرأ من تحولات في رسم المدن بانزياحات شكلية ولونية ثرية، وهو ما انسحب على أعماله الأخيرة عن وسط عمان، في معرضه الجديد (مدن الحنين)، الذي أقيم في قاعة دار الاندى (عمان- الأردن)، حيث التقاط زوايا ومقاطع من وسط مدينة عمّان، والتصرف باشكالها، وإعادة تشكيلها من جديد وكأنها مدن جديدة تنبض بالحياة والسكينة معا، فكان احيان، وتوكيدا لصلته البَصَرية، المعيشة والعميقة بالمكان الذي يحرص ان يدل القارئ عليه، سواء كان مكانا اوزاوية التقاط استثنائية، وفي كل الأحوال تظل تلك الأماكن واقعة مادية، فكان يتدخل أحياناً، ليكون مرشداً سياحياً فيكتب موثقاً موضوعات (أماكن) أعماله، مثلاً:
(موقف سيارات الركاب في يمين الصورة لنقل المواطنين لجبل اللويبدة وسط البلد قرب مطعم هاشم بعمان)، او (الشابسوغ، سوق الذهب في يمين اللوحة وسط مدينة عمان)، ولا يجد المتلقي من فوضى تلك الامكنة الا كرنفالا لونيا يجعل تلك الاماكن المتعينة من المدن وكانها تتحول الى حديقة معشوشبة ومزهرة..
ويكتب عن أنماط المدن وتحولاتها:
“منذ سنوات وأنا أرسم المدن، ليس كما يراها الآخرون، وإنما أرسم كما أنا آراها، هي المدن الترابية أحادية اللون، أو المدن الرمادية الباردة بلون الثلج، واحيانا المدن الملونة الحالمة.. إن عمان هي (مدينة الحنين) ولهذا أنجزت مجموعة من الأعمال توثيقاً للزمان والمكان في آن واحد، واكتشافاً للفرح في داخلنا حين النظر اليها، لأجعل منها جنائن يحلم بها المتلقي بحرية وسعادة”..