تصدير:
” بين هذا القبح،
أبحث عن وجه بلادي
لأرسم الجمال من جديد.” ما ظل مني، ص 60
[ما ظل مني]، عنوان يهربه عبد السلام عطاري من القصيدة إلى المجموعة الشعرية وهو في ذلك لا يختلف عن نهج المبدعين نثرا وشعرا في وسم الكل بالجزء، وغالبا ما يكون اختيارا خاضعا لرؤية المؤلف التي قد تغيب عن القارئ كما قد تبين.
فهل كان هاجس الشاعر إعادة صياغة كل شيء: المكان والزمان، التراب والأرض، الناس والحرب، والأنا ذاتا وموضوعا قبل أن تدوس آلة الحرب على كل شيء وقبل أن يتلاشى كل ما يكوّن هوية وتاريخا ووجودا؟
كذا ساءلت هذه المجموعة الشعرية النثرية التي لم تتنصل من خصوبة الصور والرؤية وعمق اللغة على بساطتها وعنف المغزى على لين المفردة، تماما كما الحال في تميز قصيدة النثر بجمعها بين أسئلة الإبداع وأسئلة الوجود.
ففي القصيدة المعنونة ب[ما ظل مني] يحتكم العطاري يحتكم إلى ثنائية البقاء والزوال، كالواقف وقفة المتأمل. يجمع فيها بين الأفعال والخلاصات. فالنجاة ليست إلا الوقوف على حقائق الأشياء وتكييفها من أجل تشكيل أيقونة أولى هي الذات/ الأنا في علاقتها بالأرض، منتشلا إياها من المحو [ما ظل مني ضل] إلى التثبيت [ وقلت انتصرت]. هذه الثنائية تنتشر على كل المجموعة الشعرية التي ظلت على وفائها لفلسفة قصيدة النثر في التفافها حول الذات تشظيا واكتمالا في رحلة الكشف عن المخبوء من هواجس وأسئلة، فيرتقي بها إلى مصاف الأيقونة وسوف يكرس كل القصائد في الديوان كاملا من أجل تشكيلها وتخصيبها.
في هذا الإطار لا بد من التعريج على خصوصية قصيدة النثر الفلسطينية وضمن خارطة الأدب الفلسطيني بصفة عامة وشاملة. هذه الخصوصية تجعل الارتباط وثيقا بين الذات الشاعرة كموضوع للقصيدة والأرض كأيقونة تعلو على كل أغراض الشعر والنثر ضمن خط نضالي متفق على تسميته بالأدب المقاوم.
وما اشتغال الشاعر على فكرة إحياء الأيقونة إلا سعيا إلى جعلها شاهدة على الوجود والاستمرار ورمزا يتصدى إلى كل أسباب المحو والطمس التي طالت/ أو تطول جزءا من الذات الخاصة والعامة. سيسعى انطلاقا منها أو بالأحرى من كل ما ظل منها إلى إعادة تشكيلها في أبعاد مختلفة. فالسؤال إذن لا يتعلق بهذه الذات فاعلة أو مفعولا بها وإنما بها ذاتا كائنة وتسعى إلى الاكتمال والتجدد كلما هددها عامل المحو والزوال الذي يشير إليه الشاعر ب[ الحرب].
ما يلفت الانتباه في هذا الديوان هو هذه المراوحة بين الذات جوهرا ومكوناتها عرضا، فهي منقوصة تسعى إلى الاكتمال غير أنه اكتمال غير محكوم بالسير الطبيعي للأشياء وإنما هو مشروط بفعل السعي والصمود والوقوف في وجه كل أسياب الطمس وتخليق كل أسباب البقاء أمام آلة المحو.
من هذا المنطلق لا يبدو الديوان مجرد حالة وجدانية تبحث في أسئلة الشعر وإنما يتحول إلى حالة مقاومة بمعناها المتعارف عليه في الشعر الفلسطيني الذي يسعى إلى ابتكار فعل مختلف تماما عن الفعل النمطي للمقاومة فلا هو ملحمة وتأريخ لمعارك ما وإنما هو سردية تعيد للتاريخ حقيقته وتتصدى لسردية المحو والإزالة من خلال إحياء الأيقونات.
هكذا، يستدعي العطاري أيقونات من النص الديني كما يستدعيها من الحياة اليومية. فهو في قصيدة [ يكيدون لي] ص 45 يقوم باستحضار يوسف والجب والإخوة المتآمرون ليس من باب الشكوى من الخذلان بقدر ما هو استحضار من أجل تثبيت النجاة بالنهاية إذ يقول:
[ويكيدون لي،
وهذا الجب يضيق علي
و(…)
وأسلمت روحي بين قلبين ونجوت]
وأما في جملة من القصائد الأخرى فقد راوح العطاري كثيرا بين احياء صورة الأب كما في القصائد التالية على سبيل المثال لا الحصر وجه أبي ص11، وجه أبي ص18] ويجاوره باستحضار الأم كما في: [ضحكة أمي ص32، وطن أمي ص24]. وإذا كانت العودة إلى استحضار صورتي الأب والأم تُقرأ عادة على كونها محاولة للهروب من الزمن وفواجعه فهي في نصوص المجموعة الشعرية ( ما ظل مني) عودة إلى إثبات التجذر والإتصال خاصة وأنه لا يغفل على ربط كليهما بالأرض وبالذاكرة دحضا لجملة من المقولات التي تشكك في التاريخ والهوية وعلاقة الإنسان الفلسطيني بأرضه.
يحلق النص الشعري أيضا نحو سماوات النضالات العالمية فيحيي جيفارا الأيقونة في قصيدته المعنونة بذات الأسم ص61، يتحدث إليه حديث الرفاق حضورا مرة وغيابا مرة أخرى دون أن يتخلى الشاعر عن أنشودة النجاة والنصر حين [ترث الأرض ترابها].
الملاحظ ووعلى امتداد النصوس هو هذا الحضور الكثيف للأيقونات التالية: الأب، الأم، البلاد، الحبيبة، الدفء، عطر التراب، الحب، الوصايا، الأسماء، الأطفال، جيفارا، الذاكرة… وهو حضور لا يبتغي منه حشد الصور وإنما التحشيد إلى تقديم سردية مغايرة لتلك التي تتشكل على لسان المحتل، إذ لا تقتصر المقاومة على حمل السلاح ولا على تأريخ الملاحم بل هي وبالأساس معركة سرديات على أنقاض أخرى أيضا وبذلك كان لزاما على الشاعر أن يقارع سردية العدو برفع سرديته عبر إعادة تشكيل الأيقونات لا سيما وهو لسان حال أرض وهوية يتهددها المحو.