أ.د درية فرحات
الجامعة اللبنانيّة
إنّ طريقة بناء الزمن في النص السردي، تكشف تشكيل بنية النص والتّقنيات المستخدمة في البناء، وتاليًا يرتبط شكل النّص ارتباطًا وثيقًا بمعالجة عنصر الزمن، لذلك يمكن عدّ القص أكثر الفنون التصاقًا بالزمن، فلو انتفى الزّمن، انتفى الحكي، ويمثّل الزّمن عنصرًا من العناصر الأساسيّة التي يقوم عليها فنّ القصة
وقد اختلف الباحثون في تعريف الزّمن، فهو “مقياس اتّفاقي ابتدعه الإنسان وليس كائنا حسيّا ملموسًا”، يمكن تحديد نوعين للزّمن هما
الزّمن الطّبيعيّ أو الموضوعيّ: يتّصف الزّمن الموضوعيّ بحركته المتقدّمة إلى الأمام باتّجاه الآتي، ولا يعود إلى الوارء أبدًا. يتجلّى الزمن الموضوعي في تعاقب الفصول والليل والنّهار ويمكن ضبطه بوساطة مظاهر الكون وآلات القياس التي ابتدعها الإنسان
الزمن النفسي: يمتلك الإنسان زمنه النّفسيّ الخاص المتّصل بوعيه ووجدانه وخبرته الذاتيّة. فالزمن النّفسي لا يخضع لقياس الساعة. إنّه زمن ذاتي يقيسه صاحبه بحالته الشّعوريّة، فيختلف في تقديره، لأنّه يشعر به شعورًا غير متجانس، ولا توجد لحظة فيه تساوي الأخرى. ويتجلّى الزمن النّفسي بقدرته على تجاوز الحدود الزّمانية والتقسيمات الخارجيّة (الماضي والحاضر والمستقبل) وتاليا يمكن في لحظة واحدة آنية، أن يمتلك الإنسان عدّة أزمنة متفرّقة، وعدّة أنوات، حيث يتمّ استحضار الماضي عبر الذّاكرة، ويتجلّى المستقبل عبر الحلم والتوقع لحظة الحاضر، وقد يتباطأ الزمن في لحظة ضجر وانتظار أو يتسارع في حالة الفرح فيكون إيقاع الزّمن مرهونًا بإيقاع المشاعر والأحاسيس
وانطلاقًا مما سبق يمكن القول إنّ قصّة عبور تنفتح على لحظة زمانيّة هي ما بعد الحياة ” حين متّ آخر مرّة”، ويتبين لنا أنّ الرّاوي هنا هو راوٍ عليم، وجاء السرد بصيغة المتكلّم، وهو يخبرنا عن لحظة ما بعد الموت التي يمرّ بها، وقد اعتمد الرّاوي التعبير عن زمنه النفسي الخاص ” هناك هنا، تنتابُك سكينةٌ عظيمةٌ. تشْعُرُ وكأنّما أُنْشِطْتَ من عِقالٍ وتخفّفْتَ مِنْ حِملٍ ثقيلٍ يُرْهقُك ويمزّقُ نياطَ قلبكَ. هنا، تشْعُرُ بدفقٍ عظيمٍ من النُّور يلفُّك كما لو كُنتَ تسْبحُ في بحرٍ دافئٍ، لا كمَا كُنتَ تسبحُ في مامضَى من أيّامك الأولى، في بحرٍ متقلِّبٍ المِزاجِ”، فتشير هذه العبارة إلى زمن استباقي، يعيش في الرّاوي مرحلة زمنية مختلفة عن الزّمن الماضي
ويتضّح للمتلقي بأنّ الرّاوي يتحدث عن مرحلة ما بعد الموت/ الجنة ربما، من دون أن يكون هناك تسمية مباشرة لذلك، لكن هناك بعض الدلالات السيميائيّة التي تشير إلى ذلك، ” فترى وُجوهًا ضاحكةً مستبشرةً زاهيةً. هذا ماحدث معِي على الأقلّ”، وهذا ما يقودنا إلى التناص الامتصاصي مع سورة عبس ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ(42)﴾
وبعد هذه المدة الزّمنية الاستباقيّة التي يعبر عنها الرّاوي بأنّك “هنا، تشعرُ أنّ الزّمن غير الزّمن” يعود بنا إلى زمن مضى مستعينا بالاسترجاع وهو استعادة ما حدث في الماضي، ما سبق أن حدث، ويختلط الأمر على الرّاوي فيتساءل عن هوية الفتاة الجميلة التي يراها، فيعقد الشبه بينها وبين زوجه في يوم عرسه، ومن هنا توالت الرّجعات التي هي عودات إلى أحداث سابقة يقتضيها إيضاح الأحداث الرّاهنة، فيعود إلى يوم زفافه، وتكون العودة الثانية بتذكر الحفيد الذي بدأ خطواته الأولى، وبما أنّنا نعيش في هذه القصة هذا المزج أو الخلط بين الحدث الحقيقيّ والحدث الذي يأتي عبر أثير الفضاء، فقد يكون هنا تماهيًّا بين مرحلة الحفيد الذي يخطو خطواته الأولى أو بين الرّاوي نفسه بخطوات طفولته الأولى، وتكون هنا الرّجعة الى زمن الطّفولة وتذكّر الأم
ويستمر الزّمن النفسي بنقل اللحظات من الزمن الماضي، فيكون أمامنا سيرة حياة من الطّفولة إلى الزواج وفرحة الشّعور بالأبوة ثم عاطفة الجدّ. ويمرّ هذا الشريط السّريع بذهن الرّاوي في حياته الأخرى، ولعله هنا تبرز الدهشة، ليتبين لنا أنّ هذا الرّاوي كان بين الحياة والموت، كان في غرفة الإنعاش، ولعلّ التعلّق بالأحبّة كان هو الجاذب القوي الذي سمح للشّخصيّة بالعودة إلى الحياة أو العبور إلى الحياة من جديد. فالعبور هو تعبير عن هذه اللحظة التي تعلق فيها الرّوح بين الحياة والموت
ويمكن القول بأنّ الكاتب علي خالد يصوّر في هذه القصّة قلق الإنسان الوجودي، فمنذ أن وجد الإنسان على سطح هذه البسيطة وهو يبحث عن وجوده، فاختار لحظة مصيريّة بين زمنين. وتجدر الإشارة إلى أنّني في أثناء قراءة القصة عادت ذاكرتي إلى فلم “بابا أمين” قصة واخراج يوسف شاهين وتدور أحداث الفلم عن ربّ الأسرة الذي يشعر وكأنّه قد مات، ويبدأ يرى ما يحدث مع عائلته بعد وفاته، وكيف تصل إلى الانهيار، وينتهي الأمر بأن يستيقظ من حلمه
لكنّ التّقنيّة الزّمنية المستخدمة هنا هي استباقيّة لما سيحدث، ومع عبور كنا في لحظات استرجاعيّة تنتهي بعودته إلى الحاضر، بعد أن يستفيق من مرضه وغيبوبته المؤقتة، كلّ ذلك باستخدام الفانتازيا العجائبيّة، واعتماد تقنيات السرد الزّمانيّة