تطلّ غرفة نومنا على المستشفى، وحين كان الرجل الذي تزوّجته يلقي بثقل بدنه على هشاشة هيكلي تخرج عيناي من محجريهما وتتعلّقان بالأضواء المتسلّلة في خجل من الغرف البيضاء المتراصّة في ذاك المبنى الكبير المستطيل.
منذ الليلة الأولى في هذا المنزل وأنا أتالّم مع المتألّمين، وألد مع النساء اللواتي يضعن أطفالهنّ، وأبكي مع الأطفال الذين لا يفهمون سبب معاناتهم. وحين كانت معركة الزوج مع جسدي تنتهي إلى ما يشبه الغياب، غياب كلّ منّا في عالمه الخاص، كنت أصير كالجثث المجهولة المقطّعة في المشرحة ذات الجوارير الباردة، غارقة في الموت والنسيان.
سكنتني آلام المسشتفى منذ اكتشافي أنّ منزلي الجديد يطلّ عليها، ومع أنّ ساعات الفرح قليلة في حياتي إلاّ أنّي كنت أشعر بالذنب كلّ مرّة أرفع رأسي وأنا أضحك، فتقع عيناي على الشرفات الضيّقة المصفوفة قبالتي، يقف عليها رجال ونساء ينفثون همومهم في سجائر، يعشّش دخانها في صدورهم، فيمرضهم ولا يشفي مرضاهم. ومع وعيي التام عجزي عن تخفيف الآم المرضى هناك، وجدت نفسي مدفوعة إلى التماهي مع أمراضهم وأوجاعهم، ما أصابني بمجموعة من العوارض المؤلمة التي عجز الأطبّاء الذين كنت أعتبرهم جيراني عن معرفة أسباب ظهورها المفاجئ واختفائها السريع.
والطريف في القصّة كلّها أنّ زوجي لم يكن على علم بشيء من ذلك، وكان ينسب دموعي المنسابة في خجل خلال تنفيذ واجباتنا الزوجيّة إلى انفعال يعود إلى طبعي العاطفيّ المتأجّج، حتّى أنّه عندما حدّثني عن ذلك بدا فخورًا بتلك المشاعر الملتهبة رغم مضيّ وقت على الزواج. وأخذت أفكّر في ردّ الفعل لو عرف هذا الرجل المتعقّل الرزين السبب الحقيقيّ لأوجاعي وسكوتي ودموعي، وكنت أسأل نفسي إن كنت سأجرؤ فعلًا على أن أطلب منه الانتقال إلى بيت آخر مع معرفتي بالوقت والمال اللذين استنفدهما منه هذا المنزل، فضلاً عن التعب والجهد المبذولين في انتظار أن يكون على ما تمنّاه دومًا.
وكيف أخبره عن أصوات الأنين المخنوقة التي توقظني ليلًا عندما تهدأ حركة الشارع، وتخترق النوافذ والأبواب وتدعوني إلى مسامرة اصحابها العاجزين عن النوم من شدّة الألم؟
وكيف أبوح له بأنّ أرواحًا كثيرة زارتني على عجل بعدما تركت أجسادها المشلّعة النحيلة العاجزة، ورحلت بلا ألم أو تردّد؟ وكيف أعلن له أنّني كنت أخجل من شهقات لذّته أمام شهيق صدورهم المخنوقة، وأنّني كنت أستر عريي الممدّد على سرير رغبته خشية أن أسيء إلى عري أجسادهم الممدّدة على سرير الموت؟
وبما أنّ الرجل الذي تزوّجته كان يردّد دائمًا أنّ الإقامة إلى جانب المستشفى أمر يطمئن النفس ويريحها خاصّة في الحالات الطارئة، تردّدت في طرح موضوع الانتقال إلى مكان آخر.
غير أنّه لم يمهلني كي أحزم أمري وأصارحه، إذ أصابته نوبة قلبيّة حادّة وهو نائم إلى جانبي. وحين استيقظت مذعورة على صوت غريب صدر عنه ثمّ انطفأ، احتضنته ووضعت رأسه على صدري وأدرت وجهه نحو المستشفى وأخذت أداعب شعره وأنا أروي له قصص المرضى المقيمين هناك والموتى الذين سبقوه، وأدلّه على الغرفة التي سيضعونه فيها بعد قليل، ثمّ سألته إن كان يقبل أن أنتقل بعد ذلك إلى بيت آخر في آخر البلدة، عند نهاية الطريق المؤدّي إلى كنيستها والمدافن.