كنتُ أنهب الطَّريق إلى بلدة المعمريَّة الجنوبية، يحدوني شوق إلى معانقةِ ولو طيفًا من جوزف حرب بقي منه في مسقطه، وأملٌ بأن أراه!
وصلت ودخلت حديقة قصره المبنيِّ على تلة. عرف قاطنه (عائلة المرحوم أخيه جاك)، أن ثمة زوَّارًا. فتحوا الباب على مصراعيه. دخلتُ، أحسست أنَّني أمام كتاب عنوانُه: لم يَغِبْ. أثاثٌ أنيق أناقة جوزف، لوحاتٌ لفارس غصوب كأنها أعِدَّت أغلفة لدواوين جوزف… عائلة تستقبل بالحب واللطف، وداد حرب أرملة جاك، وشقيقتها ماري، وابنة أخي جوزف الجميلة سميَّا كأنه هو من يرحب بك ويقول “أبوس روحك”. أما جناح جوزف في الطبقة الثالثة من القصر فهو “كلُّ الحكاية”… استقبلني عبقٌ منه، وحين طالعني مكتبه الذي بقي كما تركه، غصصتُ وأدمعت، وقد شممتُ حضوره وغيابه… فأحسست، وأنا أكلِّم روحه، أنْ “كلُّك عندي إلَّا أنت”… أو كلّي عندك… إلَّا أنا.
كنت لأكتفي بتلك الأويقات في ذاك القصر الذي عمَّره جوزف بعرق جبينه، وبكلمته، لولا أن المناسبة تكريمٌ لصاحب “مقصّ الحبر”، بتمثال نصفي نحته بيار كرم، ووُضع في ساحة تؤدي إلى قصره، قدَّمه رئيس “نادي الفرقد” المهندس كميل كرم وشقيقه كابي كرم، ثم احتفال تكريمي خطابي رعاه مطران صيدا للموارنة مارون العمار، بعدما أزاح الستار عن التمثال، أقامه “نادي الفرقد” واتحاد الكتاب اللبنانيين والحركة الثقافية في لبنان و”دار البنان للطباعة والتسجيل والنشر والتوزيع” على مسرح راهبات الوردية، تخلَّله توقيع كتاب للخوري ميخائيل قنبر، عنوانه “جوزف حرب سمفونية فصول”. والكتاب الأنيق الطباعة الصادر عن “دار البنان”، سيرة ذاتية لصاحب “شجرة الأكاسيا”، ميزتُه إرفاق كلِّ محطة من تلك السيرة بشطر من قصائد جوزف أو بمقطع، كأنِّي بالراحل الحاضر هو من كتبها.
أمضى الخوري قنبر الذي جمعته صداقة بصاحب “رخام الماء” وقتًا طويلًا في صومعة جوزف ينقب ويفتش و”يفلفش”، حتى خرج بكتابه الذي يُعد الأول عنه بعد رحيله.
أما الاحتفال الخطابي فحضره ممثل رئيس المجلس النيابي النائب ميشال موسى والنواب علي عسيران وأسامة سعد وغادة أيوب وأمين سر محافظة لبنان الجنوبي نقولا بوضاهر وجمع من الشخصيات وعائلة الشاعر الراحل.
توالى على الكلام في الاحتفال الذي قدمته الإعلامية جويل مارون، رئيسة المدرسة الأخت جنفياف طيار، والمهندس كميل كرم، ثم المطران العمار، فالأب بطرس عازار، فالأمين العام لاتحاد الكتاب اللبنانيين الدكتور أحمد نزال، فرئيس الحركة الثقافية في لبنان الشاعر باسم عباس، فالشاعر جورج غنيمة، فالناشر الأديب الدكتور سلطان ناصر الدين، فالأب قنبر، وخُتم بكلمة لسُميَّا حرب. وأدت السيدة ناتالي أبي طايع أربع أغان كتبها جوزف حرب للسيدة فيروز. أنصفت الكلمات صاحب “طالع ع بالي فلّ”، إشادةً بدوره الثقافي الأدبي، وبشاعريته العالية وبيده البيضاء على قريته، وبنبل أخلاقه، ووفائه لأصدقائه، وبوقفاته الوطنية، وعمله أمينًا عامًّا لاتحاد الكتاب اللبنانيين، وبالمسلسلات التي كتبها للشاشة الصغيرة في لبنان والدول العربية، وبأغانيه التي كتبها، وبصوته وهو يلقي قصائد في الإذاعة الرسمية ضمن برنامج “مع الغروب”..
رَحَلْتَ مَا كُنْتَ إِلَّا غَيْمَةً خَطِفَتْ
شَمْسًا… قُبَيْلَ اتِّشَاحِ اللَّيْلِ بِالْفَجْرِ
أما كاتب هذه السُّطور، فخصَّ المكرم بكلمة صاغها من عناوين كتبه، وختمها بقصيدة طويلة، عنوانها “الْمَعْمَرِيُّ نبيًّا مِنْ بَني الشِّعْرِ”:
يَا مَعْمَرِيُّ نَبِيًّا مِنْ بَنِي الشِّعْرِ
حَسْبُ الْجِنَانِ بَقَايَا مِنْ ثَرَى الْقَبْرِ
كَمْ مَرَّةٍ قُمْتَ مِنْ مَوْتٍ لِتَعْبُرَ بِي
كَأَنْ وَطِئْتَ ارْتِحَالَ الزَّهْرِ… بِالْعِطْرِ.
رَحَلْتَ مَا كُنْتَ إِلَّا غَيْمَةً خَطِفَتْ
شَمْسًا… قُبَيْلَ اتِّشَاحِ اللَّيْلِ بِالْفَجْرِ
وَمَا رَضِيتَ مِنَ الْأَيَّامِ تَجْمَعُهَا
بَلْ شِئْتَهَا لِالْتِقَاءِ الْغَيْمِ، كَالْجِسْرِ
ثُمَّ انْصَرَفْتَ عَنِ الْأَزْمَانِ مِحْبَرَةً
خَطَّتْ خَوَاتِيمَهَا، سرًّا، رُؤَى الْحِبْرِ.
يَا مَعْمَرِيُّ، الْغِيَابُ الْمُرُّ أَتْعَبَنِي
وَكُنْتَ عُمْرًا يُمَاهِي بِالنَّدَى عُمْرِي
قُلْهُ الْقَوَافِي اجْتَرَحْنَ الْخَمْرَ خَابِيَةً
قُلْهُ الْكُؤُوسَ غَدَتْ تَرْنِيمَةَ الْخَمْرِ
وَقُلْ مِزْمَارَكَ الرَّاعِي اسْتَبَاحَ مَدًى
مَا كَانَ يَنْقُصُهُ، إِلَّا غِوَى الْخَصْرِ.
وَكُنْتَ يَا مَعْمَرِيُّ الشِّعْرَ أَجْمَلَهُ
قُلْ رَاهِبَ الْحِبْرِ مَا نَادَى عَلَى الدَّيْرِ
بَلْ رَاحَ لِلْحَوْرِ يَشْكُو نَسْمَةً خَطِئَتْ
فَسَامَحَ الْحَوْرُ شَكْوَاهُ بِلَا عُذْرِ.
وَكُنْتَ صَخْرًا نَقِيًّا خِلْتُهُ زَهَرًا
بَدَوْتَ بَعْدُ رَقِيقًا رِقَّةَ الصَّخْرِ
جَمَعْتَ مَا عَجِزَتْ عَنْهُ الْحُقُولُ مَعًا:
تَوَاضُعَ الْغُصْنِ وَاسْتِعْلَاءَةَ الْجَذْرِ
كَأَنَّ وَحْدَكَ تَحْمِي النُّبْلَ مِنْ خَتَلٍ
فِيكَ اسْتَحَالَ أَمِيرَ الْوَقْفَةِ الْبِكْرِ.
أَرَاكَ دِيوَانَكَ “الْمَشْغُولَ مِنْ ذَهَبٍ”
كَمِثْلِ “إِسْوَارَةٍ” فِي مِعْصَمِ النَّهْرِ
يَجْرِي وَتَجْرِي وَرَاءَ النَّهْرِ أَوْدِيَةٌ
تَجْرِي جِبَالٌ وَيَجْرِي الْفِكْرُ فِي السَّطْرِ
وَمَا عَلَى اللُّغَةِ الْمَتْعُوبِ خَاطِرُهَا
إِلَّا الْقِيَامَةُ… قَامَ “الْحُسْنُ” مِنْ بِئْرِ.
غَنَّتْكَ فَيْرُوزُ… فِي الْمَقْهَى وَكُنْتَ يَدًا
شَرِبْتَ قَهْوَتَكَ، امْتَدَّتْ يَدُ الْبَحْرِ
إِلَيْكَ تَرْجُو الْتِقَاءً لِلْيَدَيْنِ مَعًا
كَيْ تَشْرَبَ الْعَيْنُ مِنْ عَيْنَيْكَ فِي السِّرِّ.
أَنْتَ الْكِتَابُ، “كِتَابُ الدَّمْعِ” أَذْرِفُهُ
شَوْقًا إِلَيْكَ، سَلِ النَّبْضَاتِ فِي الصَّدْرِ
سَلِ الْحُرُوفَ فَهَذَا اللَّيْلُ يَعْرِفُنِي
نَبْكِيكَ حَتَّى مَعًا نَقْوَى عَلَى الْقَهْرِ
وَقَّعْتَ لِي مَرَّةً كُتْبًا سَمَوْتُ بِهَا
رَأَيْتُ وَجْهَكَ فِي إِشْرَاقَةِ السِّفْرِ
آيَاتِ حُبٍّ، وَنَبْضُ الْقَلْبِ شَالَ بِهَا
وَرُحْتُ فِي نَشْوَةٍ… هَيْهَاتَ مِنْ سُكْرِ.
وَمَرَّةً كُنْتَ ضَيْفِي… السُّؤْلُ عَنْ فَرَحٍ
أَجَبْتَ: لَمْ نَأْتِ كَيْ نَسْعَى إِلَى أَجْرِ
جِئْنَا نُقَلِّلُ مِنْ حُزْنٍ وَمِنْ حُرَقٍ
لَعَلَّ، يَوْمًا، يُدَاوَى الْحُزْنُ بِالصَّبْرِ.
وَكُنْتَ… أُمَّكَ رِجْلَيْهَا تُقَبِّلُ، إِذْ
حَنَوْتَ عُمْرًا عَلَيْهَا شَاهِرَ الظَّهْرِ
وَكُنْتَ أَيْضًا أَبَاكَ، الْفَقْرُ عَلَّمَهُ
أَنَّ الْجَبِينَ كَرَامَاتٌ مِنَ الْفَخْرِ
وَكُنْتَ إِخْوَتَكَ اخْتَالَتْ بِهِمْ قِيَمٌ
وَكُنْتَ وَحْدَكَ قَصْرًا سَيِّدَ الْقَصْرِ.
يَا مَعْمَرِيُّ… هُنَا التِّمْثَالُ يُؤْلِمُنِي
أَنْ كُلُّهُ عِنْدَنَا إِلَّاكَ… لَوْ تَدْرِي
إِذْ أَسْأَلُ الْحَجَرَ الْمَقْصُوبَ مِنْ غُصَصٍ
كَيْفَ ارْتَضَاكَ جَمَادًا مُوجِعَ الذِّكْرِ
أُجِيبُ عَنْهُ، وَحَسْبُ الرُّوحِ أَقْدُسُهُ
مُبَارَكٌ أَنْتَ… نَبِيًّا مِنْ بَنِي الشِّعْرِ!!!