عزيزي القاريء
منْذُ صُدُورٍ هذا المُؤَلَّفْ” ” حصارات في حِمى الهوادير” ل ” حَنًّا أَمين ابرهيم “منذُ سنوات خلت_ وقد تصفحت مقدِّمَاتِه آنذاك على عجل _ وأنا اتوقُ الى اكمَالِهٍ وكانَتِ انشٍغالاتٌ تحولُ دونَ ذلك .
أمًّا وقَدْ عَزَمْتُ على إتْمَامِ هذِه الرِّحْلة الشَّيّقة بين دفّتيّ هذا الكِتابِ المختَلِفٍ وقد تخَطّتْ صفَحًاتُهُ الخَمسُمايَةَ صفحَةٌ، كانَ لا بُدَّ لي من إبداءِ الرَّاي وتدْوينِ انطباعاتٍ وأنْ اتوقّفٌ عندَ بعضِ النّقاطٍ التي رافَقَت ولادَتَه وإِصْدارَه ، وهي التالية:
اولا : انْ يًلجَأ احَدُنا الى البَحثِ عن اُصُولِهِ واجْدادِه وانْسِبائِه من أجلِ تكوينِ شَجرةِ العائلةٍ بعدَ مًرورِ عُقودٍ لا بَلْ قُرونٍ فهذا امرٌ يستَحقُّ التَّقديرَ والثَّناءَ لِما يَستوجِبُهُ من رَوِيَّةٍ وصَبْرٍ وبحثٍ وتَقَصٍ.
ثانيا : أن يَنتهٍجَ المُؤلّفُ مَبْدَأ جَمعِ الوًثائِق والمَعلومَاتِ مٍن شتَّى الأنحاءِ لِيُؤسّسَ ويحمي هذهِ الأصولَ من التفتُّتِ والضّيَاعِ في غَياهِبِ الزّمَنٍ فيؤَرٍّخَ بواسِطَتِها لعائِلتِهِ ومَحْتِدِهِ وجُذُورِه وفي هذا ايضا جُهدٌ بالِغ.
ثالثا : أنْ يًصدُرَ هذا الكتابُ بحُلَّتِه البهيّة وطباعَتِهِ الأنيقَةِ رغْمً بعضِ الهَفَواتِ الطِّباعيَّة التي شَابَت اللغَةَ (وقد عُمِد الى تَصْحيحِ مُعظَمها في مُلحَق تمّ ضَمُّه الى المؤلَّف).
رابعا : أن يُقدَّمَ الكِتابُ هَديَّةً الى المهتَمين من أصْدقاءَ ؛ادباء ،شعراء أو مسَاهمين في مُلْحقاتِه عَبر نشرِ وثائِقَ او قصَائِدَ او ازجالٍ قيلَتْ في مُناسَباتٍ تختَصُّ بالشَّاعِر والمؤلِّفِ “حنا امين ابرهيم” او بعائِلَتِه ،فهذا يَنفي الغايَة المادِيَّة او الرِّبْحيّة من أهدافِ وضْعه، ويعزّز فِكرة تقديسِ الهَدَف وَنُبل المَقصِد .
خامسًا: أن يَحْتَفي المُؤلِّفُ بإطلاقِ الكتابِ في احتفالٍ رسْمِيٍّ و شَعبِيٍّ وتقامُ الوَلائِمُ على شَرَفِ المناسَبة فهذا بمَثابَةِ احتِفاءٍ بولادةٍ واحتفالٍ بعُرس وانتصارٍ لرغبَةٍ شاءَ صاحِبُها أنْ تكونَ منزّهةً، فكانًت.
وقبْلَ أنْ اغوصَ في الصّفَحَاتِ المتًنوِّعةِ لا بدَّ من التّنويهَ بأنَّ العفْوِيَّةَ التي طَغت جاءتْ لِخِدْمَة الصِّدق وليس لطًمْسٍه.
إنَّ “حصارات في حِمَى الهوادير”
هو نُزْهة في التّاريخ، في ماضي عائٍلةٍ
حَمَلها التّرحَالُ من نواحِي” حماه” السُّورية على الإسْتقرار في ” اهدن “، البلْدة الشِّمالية الذّائعَة الصِّيت ومن ثَمّ كان التمَدّدُ الى نواحٍي “جبيل” وتحديدا الى بلْدةِ ” حصارات” المترَبِّعةِ على هَضَبةٍ وادِعَةٍ تؤَاخِي المَدَى والصّدًى الطّالِعَ من شِغَافِ الودْيانِ المجاوِرًةِ ،والمعانقَةِ للجمالِ والخيال… .
هناكَ استقرَّ الوافِدون من”الهوادير” الأشِدَّاءِ وبَنَوا بيُوتَهم واستنبَتوا الأرضَ وكانَت المَراعِي مَورِدا للكلأ فاقتنَوا المواشٍي ممّا اعانَهُم على الاسْتقرارِ والصُّمُود .
ثم نَشَأت نِزاعَات مع “العُثمانيين” الذين حكَموا هذِه الأصقاعَ واسْتبدّوا وظلَموا، فسَافَرَ مَن سَافَر مِن اصول عائلة “حنا امين ابرهيم” الى الأميركتين حيث اصَابوا من النًّجَاحِ ما اصابوا ،وباتَ لهم شأنٌ كبيرٌ في المغْتًرب ، وظلَّت صِلتُهُم وثيقةً بالوَطن وظلّوا اوْفِياءً لنَشأتِهم وجُذُورٍهم وضَيعَتِهم .
امّا الخِصَالُ فحَدِّثْ ولا حَرَج ؛ نفوسٌ ابيًّة ،قلوبٌ نقيّةٌ ،سَوَاعِدُ قويّةٌ،صُدورٌ تأبى المَهانَةَ والخُنُوعً وسَعيٌ الى الافضلْ ما دامَت حَياة .
بيوتٌ مِضيافة، ترفُدُ القاصِدِين وتُعينُ المغلوبين ، تهْوَى الفروسيّةَ وعاداتِها تجيدُ إحْيَاءَ التراثِ وعَقدَ الدّبكةِ ورفْعَ القَيْمةِ وتحَدّي الصّعاب .


وما لفتَني في هذِهِ الرِّحْلَةِ المشَوِّقة “في حِمى الهوادير” هو رُوحُ النّخوةِ التي خَيّمَت على المَشهدِ وحُبُّ المبادَرَة في أبسَطِ الأمورِ أو اجَلِّها وابتكارُ الحُلولٍ سَواءَ في حِفظ المِياه وحفرِ الآبارِ او بناءِ المدَارسِ والمعَاهدِ وتأسِيسِ الجَمعيّاتِ ذاتِ النّفْعِ العامِ واقامةِ الصِّلاتِ مع المَسؤولين في الدًّولةِ والنَّافِذين في الجِوار .
“حصارات في حِمَى الهوادير”
عنوانٌ يَختزلُ مَجهودَ عائلةٍ آمنَت بالارضِ والإنسانٍ واهتمّتْ بالمَوارٍدِ الزِّراعيّة والثّروة الحيَوانِيَّةٍ على عادة ذاك الزّمن (اهتمامَها بالثقافة والتّحْصيلِ فيما بعد) : تربيةُ خيولٍ وحميرٍ وابقارٍ ،دواجنُ وماشيةٌ، كي تعينَها على زَمنٍ جائٍر وحُكمٍ عثمانِيٍّ قاهٍر ، واسْتَطَاعَت انْ تكونَ وتستمِرَّ رُغْمَ النّوازِل وأنْ تَحْفَظَ مقامَها وذرِّيَّتَها وانْ تًصٌونً المُرُوءَاتِ وما دَرَجَ عليه الجُدودُ من قِيًمٍ ومَهَاراتٍ يدَويَّة وحٍرفيّة ودأبٍ في اكثرَ من مَجال .
أماَّ الوثائِقُ الّتِي ضَمَّها المؤلٍّف الى الكتَابِ فمُتنوٍّعةٌ ومٍنها ما حَفِظتْه البُيٌوتُ من أدواتٍ قديمةٍ واثاثٍ ومعدّاتٍ ستظلُّ شاهِدا مادِيًّا حيًّا للأجيَال .
اما الوثَائِقُ الرًّسْميّة فهي شَواهِدُ على التّاريخ ومَراحِلِهِ وتطوُّرِ الإدارةِ تِباعا كذلكَ سِجِلَّاتُ الكنائِسٍ والجمعياتِ والمداخِيلِ والمسَاهِمين ،وهذا سَيَظلُّ في عُهْدة المؤرٍّخين وفي خِدْمَةِ ابحاثِهم .
هذا المؤلَّف هو اكثرُ من كِتابٍ ففيه من التّاريخ والأمكنةِ والانسابِ، وشجرَةِ عائِلةِ” الهوادير” وتشَعُّباتٍها في لبنانَ والمهْجرِ وفيهِ من التّفاصِيلِ التي تَكرَّرَ ذكرُها ربّما ما يفيد ويسَلّي ويجسّدُ نبضَ الشّخْصيّات بكلّ امانَةٍ وتجرُّدٍ ويبْعثُ الأحْداثَ المتَعاقِبَة في الحياةٍ الاجتماعِيَّة يومَذاك .
اكثرُ من خَمسُمايةِ صَفحةٍ انطلقتْ من اصْلِ التّسْمٍيَةٍ “الهوادير” ودلالَتِها النّابِعةِ من صَوتٍ جَهوري هادِرٍ وعذوبَة وإجادةِ فَنِّ الأزجالِ وإنْشادِها.
ثم تطرَّقت الى ما قدَّمتْه العائلَةُ للبلْدة أي “حصارات” من مآثِرَ جَليلةٍ ومَفاخِرَ للأدبِ ومِن رٍفعةٍ واحتضانِ شعراءٍ، اصدقاءَ وفنانين ومتابَعَةٍ للثَّقافَةٍ والمثَقًّفين .
قراتُ المؤلًّفَ بِشَغَفٍ ودَهْشةٍ واكتشَفتُ التَّحَوُّلاتِ الَّتِي طرأتْ على المُجْتَمَعَاتِ واسِفْتُ لِمَا آلتْ اليه حَالُنا ، من طُغيانٍ النَّزعَةٍ المَاديَّة وتنامِي الرُّوح الفَرديَّةِ والتبَاعُدِ بينً أفرادِ الأسرةٍ الواحِدةِ ، وهذا ما يهَدّدُ إرثَ الماضي الجميلِ ويطمُسُه، وقد وُلِدَ هذا الكتابُ ليشهَدَ لزَمًنِ الاصًالَةِ وعاداتِها وليقولَ أنًّ التَّحَوُّلَ يَجِبُ الا يُفْقِدَ هذه العاداتِ ألقَهَا وأنَّ هناكَ مًنْ يَقْلقُ عليها ويَسْهرُ على إِحْيائِها في أثرٍ كتابيٍّ سَيبقى شَاهِدًا على تاريخِ ضَيْعةّ مٍن لينانَ وما رافقَها من فترَاتٍ عصِيبة.
“حنا امين ابرهيم” لقد قمْتَ بمَهمَّةٍ شاقَةٍ آزَرَكَ فيها المخْلٍصونَ وبخاصَة صديقُك الأستاذُ والفنانُ “ياسر لبكي”
وقد استحَقيتُم الشُّكرَ والتَّقديرَ حتمًا ؛
أنْ ينبري انْسانٌ للتنقيبِ عن فروعِ عائِلتهِ وقد مَرَّت عقودٌ وَأَزْمنَةٌ وأنْ يتتَبَّعً أَثَرَها في لبنانَ وحيثُ حمَلتها ريحُ النِّداءاتٍ إلى ما وراءِ البِحارِ، فهذا إنجازٌ ويكفيكُم فَخْرا انَّكم توخَّيتُم الصٍّدْقَ وتصويرَ الواقِعِ وفاخَرْتُم بما اتيحَ لكُم في زَمَنٍ عانًى من ظُلم الحُكًّامِ والحروبٍ والإقطاعِ والمجَاعة.
امَّا المقَدٍّمة وقد أَهْدَيتُمُوها الى ربِّ الأربابِ السًّرمَدي العَليم ، ومن ثَمَّ الى أرزِ الرَّبِ الخالد، وبعدَه، الى الكُتّاب والأُدباءِ والشُّعراءِ والفنَّانين والفلاسِفةِ وعظماء التَّارِيخ اللبنانيِّ والعالمِي ..
فأََجِدُني اقولُ انَّكَ مَجْبُولٌ بالإيمانِ وحُبٍّ الإنسانِ المبدِعِ والخلَّاقِ، ومَدِينٌ للَّذينً صَنًعوا مَجْدَ لبنانَ ولِمَن” وَضَعَ رغٍيفا على مائِدةِ الحياة” كما يقولُ “جبران خليل جبران.”

مي اسد سمعان