هنري زغيب يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت)
هنري زغيب – حوارٌ صحافيّ مع جبران قبل 95 سنة (2 من 3)
هنري زغيب*
في الحلقة الأُولى من هذه الثُلاثية الجبرانية الجديدة، مهَّدتُ للحوار الذي أَجرتْهُ الصحافية الأَميركية غلاديس بايكر مع جبران خليل جبران (على نُدرة ما عُرِفَ عن جبران من أَحاديث صحافية)، ونشرَتْهُ في جريدة “برمِنغهام نيوز” (الأَحد 11 كانون الأَول/ديسمبر 1927). وفي ذاك الحوار كشَفَ جبران كيف ولماذا وضَع كتابه الخالد “النبي” (نيويورك 1923)، وأَبدى مشاعرَ وجدانية أُخرى خلال الحديث
هنا الحلقة الثانية من هذه الثلاثية، وفيها حرفيَّة الحوار وتعليقات المحرِّرة عليها
30 دقيقة لكتابة كل فصل
“طوال 12 سنة عاشها خليل جبران في أَميركا، وضَع عدة كتب، قسمٌ منها بالإِنكليزية: “المجنون”، “السابق”، النبي”، “رمل وزَبَد”، لكنَّ أَهمَّها: “النبي”. ويرى كثيرون ممن قرأُوه أَنه “مكتوبٌ بوحي كامل”. سأَلتُ مؤِلِّفه عن ذلك، فجلس صامتًا ثوانيَ بطيئةً قبل أَن يجيبَني. ثم نطق فقال
حين يتحدث الإِنسان العادي عن كتابٍ أَدبيٍّ على أَنه موحى به، يَقصد أَن كلمات الكتاب أَوْحى بها مَصدر غيرُ بشريّ، أَو إِنسان متفوِّق أَعلى. طبعًا أَنا أُؤْمن بأَن كلَّ عمل إِبداعي هو، بشكل أَو بآخَر، مُستوحًى. أَمَّا أَنا فكتبتُ “النبي” كما كتبتُ سائر كُتُبي. استغرقَ مني كلُّ فصل نحو 30 دقيقة
بدا لي ذلك غيرَ معقول. تلك المقاطع العميقة المنعشة عن الحب والأَلم والدين والزواج هي تتويجُ جهدٍ يستغرقُ حياةً كاملة
ثم أَكمل جبران
منذ كنت في الثامنة عشْرة، أَردتُ أَن أَكتبَ “النبي”. بدأْتُ أَكتبُه بالعربية. لكنَّ والدتي نصحَتْني أَن أَتريَّثَ حتى أَنضجَ أَكثر فأَكتبَه لاحقًا. احترمتُ نصيحتَها ولم أُكْمِلْهُ. وحين عزمتُ ثانيةً على كتابته، كنتُ في باريس أَدرس الرسم. لكن الظرف وقتئذٍ لم يكن مُؤَاتيًا، فوضعته جانبًا من جديد. وما إِلَّا حين عدتُ إِلى أَميركا حتى بدأْتُ فعليًّا بكتابته، وهذه المرة بالإِنكليزية
هنا أَخذ جبران يمشي في الغرفة. تناولَ نسخة من الكتاب، وراح يتفرَّس بها كأَنه غاب عني. بعد لحظاتٍ قال كأَنه وحده
أَظن أَنني لم أَكن يومًا بعيدًا عن “النبي”، منذ بدأْت أُفكِّر به وأَنا في جبل لبنان. كان دومًا جزءًا مني، نابضًا بي في كل حين
أَردْتُ إِعادته إِلى حديثنا الأَول، وفي بالي أَن كل كلمة في هذا الكتاب لؤلؤةٌ تلتمع في عقْد ساطع، فسأَلتُهُ
هل أَعدتَ كتابتَه ونقَّحتَ فيه؟
نَهَرَ إِلى الوراء رأْسه فَبَدَتْ فيه من مشحات الشَيْب على صدغيه، وأَجاب جازمًا
لا. أَبدًا. لكنني أَبقيتُهُ أَربع سنوات على طاولتي قبل أَن أُسلِّمه للناشر، كي أَتأَكَّد، وأَتاكَّد تمامًا، أَنَّ كل كلمة فيه جاءت بأَفضل ما أُريد التعبير عنه
ثم أَخبرتُ هذا الشاعر من الشرق عن عالي التقدير الذي يَكُنُّهُ لكتابه عدد كبير من معارفي وأَصدقائي
مشاهدات حية حول “النبي”
رويتُ له قصة رجل معروف بذكائه الخارق وغِيرَته بين رفاقه وأَصدقائه، يقرأُ “النبي” كي يستعيد قوَّتَه وطموحَه وحُبَّه الحياةَ حين يشعُر بفراغ روحاني في داخله. وحكَيْتُ له عن رجل آخر قال لي إِن “النبي” و”الكتاب المقدَّس” هما الكتابان الوحيدان اللذان يَهُمَّانِهِ إذا سُرقت مكتبته كلُّها. وأَخبرتُهُ عن صديقة أَبقَت كتاب “النبي” طويلًا إِلى طاولة سريرها تقرأُ منه فصلًا كل ليلة قبل أَن تنام، وعن صديق آخر كان يحمل معه كتاب “النبي” إِلى الغابة يقرأُ فيه وهو مُسْتَلْقٍ على سرير من إِبَر الصنوبر. وتوقفْت مليًّا عند قصة جرت لي ذات يومٍ وكنت راكضةً لأَلحق بالسفينة التي تُقِلُّني إِلى أَوروبا، إِذ استوقَفَتْني فتاةٌ وسْط بهْوِ فندق في نيويورك لتقرأَ لي فقرات من كتاب “النبي” كانت اشترَتْه ذاك الصباح من المكتبة. وختمْتُ له قائلةً: “كما ترى، كتابك يَهُمُّ الشيب والشباب. فيه نوع من اللاعمر الأَزلي يغذِّي كلَّ من يقرأُه”
دمعة جبران تَأَثُّرًا
التفتُّ إِلى الشاعر فرأَيتُه يُشيح بوجهه عني، ولاحظتُ تَرَقْرُقَ دمعتَين في عينيه البُــنِّــيَّـــتين. بعد بُرهةٍ حاول شرح انفعاله
يُؤَثِّر بي عميقًا شُعور القراء عند قراءتهم كتابي الصغير. جاءتني رسائل من معظم أَنحاء العالم كتَب لي أَصحابها شعورًا مماثلًا“
****
ماذا جاء بعدُ في تلك الجلسة الصحافية؟
هذا ما أُتابعُهُ في الحلقة المقبلة الأَخيرة من هذه الثلاثية
ولمن لم يقرأُوا كتاب “النبي”، هنا مقطعٌ من فصل “الحب”
كتاب “النبي” : مقطع من فصل “الحُب”
قالت الـمـيـترا: “كَـلِّمْنا في الحُبّ”
رفَعَ رأْسَه، نظَرَ إِلى الجُموع فَــرانَ عليهم سُكون. وبصوتٍ جهيرٍ قال: “يومَ الحُبُّ يندَهُكُمُ انقادوا لَه ولو انَّ دروبَه وعْـرةٌ شائكة. ويوم يغمُرُكُم بِجناحَيه استسلِموا إِليه ولو جَرَحُكم سيفٌ بين ريشِهما. ويوم يُخاطبُكُم آمِنُوا به ولو مزَّقَ أَحلامَكم صوتُه كما ريحُ الشَّمال تُهَشِّم الحديقة. فكما الحبُّ يتَوِّجُكُم قد يَصْلُبُكم، وكما ينمِّيكُم قد يشَذِّبُكم، وكما يرتفع إِلى أَعلى ما فيكم مداعبًا أَطْرى أَغصانِكم المرتعشة في الشمس، قد ينحدر إِلى جذوركم يَهُزُّها وهي في قلب التراب
كما حُزَمُ القمح يَجمعُكم الحبُّ إِليه، يَدرُسُكم حتى يعرِّيَـكم، يُغربلُكم حتى يُحرِّرَكُم من قشوركُم، يَطحنُكُم حتى البياض، يَعجنُكم حتى تلينوا ثـمّ يصطفيكم إِلى ناره المقدسة فَـتَـتَـأَهَّلون خُبْزًا مقدَّسًا لـمائدة الإِله المقدَّسة
كلُّ هذا يفعلُه الحُبُّ بكم كي تعرفوا أَسرار قلبكم. وبِهذه المعرفة تصبحون نبضةً في قلب الحياة. أَمَّا إِذا من خوفكم لم تَــنْـشُـدوا من الحُبّ إِلَّا هَــنــاءَتَــه ومِـتْـعَـتَـه، فاستروا عُريَكم واخرُجوا عن بـيدر الحُبّ إِلى عالمٍ بلا مواسم تضحكون فيه لا كلَّ ضحكِكُم وتَبكُون فيه لا جميعَ دَمعكم
الحُبُّ لا يُعطي إِلَّا ذاتَه ولا يأْخذ إِلَّا من ذاتِه. لا يَمتلِكُ، ولا يُمكن امتلاكُه لأَنه مُـمتلئٌ بـالحُبّ. وحين تعرفون الحُبّ لا تَقُولُوا: “الإِله في قلبي” بل قولوا: “أَنا في قلب الإِله”. ولا تَظُــنُّوكم قادرين على توجيه مسار الحُبّ، فإِن وَجَدَكُم مستاهلين، هو الذي يُوَجِّه مسارَكم”
هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت)
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
تعليقات 1