عصام الشرتح
١- هل تحدثنا عن بداياتك الشعرية؟ وماهي الصعوبات التي واجهتها في بداية النشر حتى بدأت تظهر قصائدك إلى النور؟
البدايات تأتي وحدها مثل النهايات، هذا ما عودتني عليه الحياة، يعني أنني لم أصحُ من النوم ذلت صباح وأقرر أن أصير شاعراً بل هي تراكمات الحياة وأوجاعها إن صح التعبير، كنت أحب أن تكون لي زوايا تخص روحي، زوايا مؤثثة بالأمنيات والوقت الذي لا يضيع والحب، هكذا بدأ الشعر يتدفق في شرايين خيالي ولم أنتبه لي إلا وأنا أسمعهم يقولون : “جاء الشاعر، ذهب الشاعر” حينها أدركت أن شيئاً ما دخل حياتي عنوة وقرر أن ينبض دمه في دمي، بدأت أتحسس هذا الداخل وأستكشفه وأقلِّبه وأسأل عنه، ثم في مرحلة لاحقة رحبت به وأجلسته في أعلى قمة بقلبي وصرت منه وصار مني. هكذا أحب أن أتذكر بداياتي وهكذا كانت، إضافة إلى العوامل الاجتماعية والثقافية والنفسية والسياسية التي كانت تحيط بي، فأنا ابن الصحراء والمدينة، وابن الدين والدنيا، وابن الانتماء والنفي
في علم الكلام وأساسيات المنطق كانوا يعلموننا أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، وكانوا يعلموننا أيضاً أن الحياة كلها مبنية على أسياسيات ثابتة لا يمكن أن تتغير، من بينها أن في العالم نفي وإثبات لا غير وليس فيه خيار ثالث سوى العدم والعدم لا شيء، ولأنني اعتبرت نفسي شيئاً في أغلب الأحيان فقد كنت أجدني أنفي نفسي وأثبتها بين الحين والآخر وأنفي دواخلي وأثبتها ثم أجد العالم من حولي ينفيني ولا يثبتني في الأغلب فنفيته ولم أنتظر منه أن يحن علي كبقية أبناء الأرض، حينها سميت النفي بالشعر، وسميت المنفى بالقصيدة نشأت في بيئة دينية وحفظت القرآن الكريم كاملاً وأنا ابن ١٤ سنة وحفظت كثيراً من الأحاديث الشريفة والنصوص الدينية والعربية القديمة كألفية ابن مالك ولامية العرب والكثير من قصائد أبي الطيب المتنبي وعيون الشعر العربي كفراقية ابن زريق ونونية ابن زيدون وغيرها، من هنا وهناك بدأ كل شيء على يد والدي سلمهما الله وكانا يأملان لي الرفعة الدينية أكثر من الدنيوية لكني وجدت الله في كل شيء ولم أفصل بين الدين والدنيا، تماماً كما كانت بدايات كثير من الشعراء الكبار وعلى رأسهم أبو العلاء المعري الذي كان فقيهاً متديناً في أول أمره حتى إن أشهر قصائده التي يقول فيها
خفف الوطء ما أظن أديم الـ
أرض إلا من هذه الأجسادِ
ويقول فيها
تعبٌ كلها الحياة فما أعـ
ـجبُ إلا من راغب في ازديادِ
هي في حقيقتها رثاء لأحد فقهاء الدين والمتمذهبين بمذهب أبي حنيفة النعمان، ومنهم أبو نواس الشاعر المعروف وكان متمنطقاً وفقيهاً وقارئاً للقرآن، أخذ عن النظام المعتزلي الشيخ صاحب الطفرة الشهيرة في علم الكلام والمنطق والفلسفة والتي سبق بها علماء اليوم فيما يسمونه بالقفزة الكمومية في علم الفيزياء وأخذ أبو نواس عن عاصم شيخ القراء وغيرهما، ومن المعاصرين مثلاً نجد الجواهري محمد مهدي والذي كان معمماً في بداياته وشيخاً في مذهبه الإمامية والشيعي، ومنهم عبدالله البردوني والذي كان يقرأ القرآن الكريم بالقراءات العشر، والأمثلة كثيرة. أما صعوبة النشر فلم أحس بها ولله الحمد
٢- الشاعر ابن المخيلة؟ وابن الطبيعة كيف وظفت الطبيعة في قصائدك بين الحقيقة والخيال؟
عانيت كثيراً من طبيعة بلدي الصحراوية، كثيراً ما كنت أحس بالظلم والتمييز حين أقارن روحي بأرواح الشعراء العرب الآخرين والذين ولدوا في الشام والعراق ولبنان إذ يحق لهم الشعور بالقصيدة تنبض في أي شيء من حولهم لجمال العناصر الطبيعية والبيئية المحيطة بهم. دامت هذه المعاناة سنوات في بداياتي لكني أزعم أنها كانت سبباً في رفع حساسيتي الداخلية تجاه الأشياء لشدة خوفي من بيئتي الميتة سلفاً قبل أن تولد إلا من الرمل والرياح العاتية والشمس التي لا تنام، أكتب الآن هذه الكلمات وأنا أملك القدرة على الشعور بالأشياء تسقط وترتفع في داخلي بمجرد أن أغمض عيني حتى إني تخيلتني مرة أسقط من فوق برج طويل فشعرت بقدمي ترتعد وتبرد أطرافها وكأني أسقط الآن فعلاً وأنا في مكاني
أيضاً لا أنسى أن أذكر الراحل الكبير محمد الثبيتي في هذا السياق وأثني على روحه التي فتحت الطريق لأرواح الشعراء من بعده ليتصالحوا مع جلافة الصحراء وصخورها ووديانها، بل جعلهم يفاخرون أبناء البيئات الخضراء الواسعة وشموسها الباردة
٣- ما منظورك للحداثة؟ وما هي الحداثة في لغة الشعر من خلال تجربتك وإحساسك بها؟
هذا سؤال يحتاج لمحاضرات طويلة لكني أوجز الإجابة عنه في كلمتين: “الحداثة هي ما نحن عليه” فقط لا غير، مع تحفُّظي الشديد على تيارات الحداثة في الفكر الأوروبي وما وصلت إليه من تسليع للإنسان وشيطنة للعلاقات الاجتماعية، تلك التيارات الغارقة في الفردانية والتي لا تخدم إلا أصحاب رؤوس الأموال الضخمة والشركات العالمية والعيادات الخاصة للأطباء النفسيين
في الشعر أنا أعتبر الحداثة حالة شعورية محضة ومتجردة عن كل تصنيف غربي أو شرق أوسطي أو شرقي بعيد، هذه الحالة هي التي أنتجت لنا شعر أبي الطيب المتنبي وأبي تمام في زمانهما وهي التي أنتجت في زماننا محمود درويش وسعدي يوسف وغيرهما، ويمكنني تعريف الحداثة بطريقة أخرى بأنها حالتنا اليومية التي نعيشها لكن بشاعرية عالية، يعني أن الحداثة ليست أن أستبدل كلمة ناقة بكلمة سيارة ولا سيف بكلمة مسدس وليست الحداثة أن أحاول عكس القديم فقط للإتيان بالجديد وليست أيضاً استعمال الألفاظ الغير مستعملة سلفاً كلفظة فيزياء وزنزلخت وأنكيدو وليست الحداثة أن أكتب قصيدة النثر أو التفعيلة أو العمود المكتظ بالصور التي تتزاحم ولا يمكنها التعبير عن اللوحة العامة التي رُسمت عليها بل الحداثة ما نحن عليه وبشاعرية عالية، هكذا يمكننا المحافظة على صورة الشعر العربي حية دائماً ونفتح لها المجال لتتطور من تلقاء نفسها ولنفسها
ولا يفوتني أن أضرب مثالاً للحداثة أحس به في الآونة الأخير.. نجد الناس اعتادوا على كلمة: “صباحُـ كِ خير” مثلاً وهم يحيّون الأنثى عندما تستقيظ من نومها، وهذا جميل بلا شك وغير ممجوج لكن يمكننا أن نحيي أنوثتها أيضاً بقولنا: “صباحُ يديكِ” بدلاً عن “صباحُـ كِ” أو “صباحُ عيونِكِ” هكذا أحس بالحداثة وأنها ما نحن عليه بشاعرية عالية
٤- أين الشاعر من أثر الثقافة والمذاهب النقدية الأوروبية على نقده؟ ما أثرها على شعرك؟
الشاعر هو هو وإذا لم يكن هو هو فإنه ليس بشاعر ولا يمنعه ذلك من الاطلاع على الثقافات والمذاهب المختلفة لكن دون أن يسمح لها بالتأثير الواضح عليه
٥- إن الشاعر أداته اللغة كيف تنظر إلى اللغة ؟ وكيف تكون اللغة الشعرية جذابة في مغرياتها ومؤثراتها في قصائدك؟!! وهل السرد يغني القصيدة أم يكون أحياناً عبأً؟
يقول أحد الأصدقاء وهو شاعر عماني جميل: “أنا كائن لغوي أتغذى على اللغة” أما أنا فأقول إنني كائن حي وإني أبحث عن الحياة التي أحس بها سواء في اللغة أو الحجر أو الألوان والرسم والنحت وغيرها ومن هنا جاء الفن وكان شاملاً لجميع تفاصيل الحياة، إذن اللغة مجرد أداة لا غير والحقيقة أسمى وأعلى منها والوجود المجرد ليس لغةً بل حقائق تعبّر عن نفسها بمجازات اللغة. هذا ما أحس به في هذه المرحلة النفسية والشعرية وأرجو ألا تحوّلتني الحياة لكائن لغوي مجرد كما حولت صديقي الجميل. أما السرد في القصيدة فهو بحسب أسلوبه البنائي فإن كان السرد شاعرياً فهو قصيدة وإن كان مجرد سرد فهو عبئ ومجرد تطويل لا داعي له
٦- أنت عانيت الاغتراب في قصائدك ؟. أي أشكال الاغتراب عانيتها في قصائدك؟
الاغتراب سيدي وأنا ابنه المطيع لن أقول غير ذلك
٧- أنت من الشعراء المؤثرين في توظيف المكان في قصائدك ؟ كيف وظفت المكان في قصائدك؟
المكان تابع لي وأنا سيده، هكذا بهذه الطريقة! وكذلك الزمان
٨- ما هي أمنيتك الأخيرة كمبدع وإنسان؟
أتمنى ألا يطول هذا الخريف وأن يحيى الإنسان على أمل الحياة أكثر مما يحيى لمجرد البقاء وأخيراً أتمنى ألا أموت وأنا واحد
٩- تحتفي قصائدك بالموسيقا الداخلية والخارجية ؟ هل أنت مع الموسقة الشاعرية على حساب الرؤية وجمالية الحدث والموقف الشعري؟
أستذكر هنا كلمة لطاهر رياض وهو الشاعر الأردني الكبير حيث قال في لقاء له مصور
“الشعر تجلي من تجليات الموسيقى وليس فرعاً من فروع الأدب، لأن الموسيقى تقودني للمعنى، وأحياناً أجد نفسي أؤلف لحناً موسيقياً بدلاً من الانتباه للمعاني” بهذا الشكل أتعامل مع كثير من النصوص التي تتسلل
لخيالي وبعضها الآخر تكون موسيقاه في معانيه وحدها دون حروف
قصيدة للشاعر عمر الخالدي
“امرأة وحدها في الظلام”
الآن ليلٌ
وحدها الأصوات تعبر بين أعمدة الإنارة
شارعٌ متماسكٌ
ومدينةٌ متروكة للأغنيات
الآن ليلٌ
وحدها الأصوات تعبرُ
طائرٌ ملأته أغنية
ووُريقةٌ سقطت على الإسفلتِ
من شجر الحديقةِ
دمعةٌ غرقت
وأعمدةُ الإنارة تختفي خلف الضباب
الآن ليلٌ
وقْعُ أقدامٍ يؤثث صوتها
شيئاً بذاكرتي البعيدة
صوتُ احتكاك الجلد بالإسفلت
حافية هي الأقدام
تمشي وحدها
بنتٌ
وهذا الليل يبدأ
في فناء المنزل الخلفي
يرقد وحدهُ جسدُ الظلام
البنت تدخل بيتها
صوتٌ يقول بأنها في هذه الأثناء
تغلق باب غرفتها
وتخلع غيمها عنها
يطول الليل أكثر
والظلام يغطُّ في نومٍ عميقٍ
ثم يدخل في هدوء الحلم
حول البيت
لا شيءٌ سوى عبثٍ
دبابيسٌ وأمشاط على الأرض
المكان
يعجُّ من فوضى أنوثتها
وأمطارٌ بلون الكحل تهطل
خلف ألواح الزجاج على النوافذ
بنتُ هذا الليل تفتح شعرها
وتطيل فيه زفير شهوتها
ليبدأ ليلها من حولها
وتضيءُ مصباحاً صغيراً
كي تُري جسد الظلام
بأن ظُلمتها أشدُّ
وأنها في عريها
لا تشتهي أحداً سواها
ظِلُّها
لون الأظافر
والزيوت
وعطرها
الجسد المبلل
صورة التاتو على يدها
كل شيءٍ ها هنا ليلٌ سوى يدها
ورأيت صورتها
وكان الكحل يهطل حولها
ورأيت شهوتها
وإذ بيديَّ
يبرد نبضها وأنا
أمسد وجهي الغافي على طرف السرير
رأيتني وأنا ألملم كحلها في الحلم
لا شيء سوى عبثٍ
وأشياء تقلل وحدتي لتزيدها
ورأيتني
والليل يدخل غرفتي
ببراءة الأطفال
يلمحني
ويعدُّ لي حُلُماً جديداً
ثم يمحو ما تبقى من رماد أصابعي
فوق الوسادة
كحلُها .. هو كحلها
صوتٌ يناديهِ
(انتبه لا تمحهُ .. هو كحلها)
ليلٌ إذن
ليل
الكويت – القيروان
2022/9/13