حاوره : وليد الحسيني
* شاعر شفاف رغم الجسد الممتلئ بالكلام المباح , يكتب الدراسات النقدية في الدوريات و المجلات السورية و العربية ,أصدر ثلاث مجموعات شعرية ( السفر إلى عينيك بعد المنفى عام 1984 , صمم غلافها الفنان سعيد الحسيني , إن القرى لم تنتظر شهداءها 1993 , ظلال الكلام ) . جميل شاعر يشبه الشعر , مثل الروح في الجسد , ملم بالوزن و التفعيلة و الحداثة , مترابط الأفكار و السطور , و كما نحتاج إلى الهواء , كما نحتاج إلى الموت , كما نحتاج إلى القلق و الخراب , نحتاج إلى شاعر مثل جميل داري الذي يبوح و يمزج هم ذاته مع هم الآخرين ليشق الطريق إلى النفس , ليفضح صهيل القصيدة . جميل شاعر عظيم ( لدي ) تأتي عظمته من عظمة شعره ، لا يتوقف عن الكتابة و المطالعة ( هام جداً) شعراً ونثرا,ً و الكلام لديه شعر ٌ جميلٌ إذا ما دون أصبح شعراً . و في الحوار التالي يقول لنا الشاعر ما يجب أن يقال
س1 : إلام يطمح الشعر …. ؟
سؤال عريض يغري بالإسهاب في الحديث عن الشعر , باختصار أقول : الشعر قطرة الضوء التي تحاول افتراع بكارة الظلام و هو الفن الجميل الذي يتكالب عليه الأعداء و الأدعياء لو أده منذ القديم , لكنه قدر الإنسان و سلاحه في مواجهة الغباء و الموت . بتعبير آخر : يسعى الشعر إلى جعل حياتنا أقل دمامة و تفاهة لأنه يسمو بالنفس و يحاول معانقة الأبدية و يسعى إلى كبح جماح الزمن لاسترداد الطفولة المراقة
س2 : هل هناك فوضى شعرية في الجزيرة … ؟
بكل تأكيد فحال الشعر الآن كحال الكريم على مائدة اللئيم , ثمة مدارس و مذاهب و منظرون و لكن ليس هناك الشعر المبتغى الذي يرضي الذوق و الذائقة و ثمة شعراء كثر و شعر قليل , وهذا القليل إذا ما توافرت له التربة الصالحة و الشمس الساطعة فقد ينهض و ينمو و يبرعم , فالزبد يذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيبقى… إن الفراغ القاتل جعل الكثيرين يلوذون بعالم الكلمة فإذا بهم يكتبون ما هب و دب , تحت مسميات شعرية مدوية …. و هناك تجارب شعرية لا يستهان بها , أثبتت جدارتها قصيدة بعد قصيدة , لكن لا مانع أن يستمر الجميع في الكتابة بصمت… لأن الجعجعة النقدية المراهقة لا تخدم الإبداع و الشعر
س3 : كيف تنظر إلى واقع الشعر في الجزيرة ؟
يكتب و ينشر شعر كثير في الصحافة السورية و الجزيرية ولكن نادراً ما أتوقف عند قصيدة واحدة , فالجميع متشابهون في اللغة و العقلية و اللهاث وراء الموضة , فمعظم ما يكتب في اكثر الأحيان خواطر نثرية فجة و مزعجة لا تنتمي إلى نبض القلب و خرير الدم و هذا لا ينفصل عن الواقع الشعري السوري إلا ومضات قليلة هنا و هناك لكنها لا تشكل حالة شعرية تستدعي الوقوف عندها , فالينابيع شبه جافة , , ثمة طلول بائسة تدعي لنفسها الشعر و الحداثة , لكنها أقرب إلى الموت منها إلى الحياة و دائما هناك استثناءات قليلة لا تضيء و لا تسمن
س4 : ما رأيك بظاهرة أدونيس و ظاهرة سليم بركات , تأثيراً و عوالم و أمكنة ؟
هي ظاهرة مرضية انتقلت عدواها من واحد إلى آخر فالشاعران الكبيران لا علاقة لهما بما يجري على الساحة الشعرية لم يقولا لأحد : قلدونا و مع ذلك تكاثر المقلدون الذين أساؤوا إلى الشعر بل إلى الشاعرين و كأنهما هما اللذان خرجا هذا العدد اللجب من المتشاعرين الحداثويين ثم إن الشاعرين لهما سقطات شعرية كثيرة , و المؤسف أن المتعصبين لهما يدافعون عنهما و عن كل ما يمت إليهما من شعر و نثر و سلوك و مبادئ … نعم الرجلان كما قلت قامتان شعريتان سامقتان , لكنهما لا يشكلان مدرسة شعرية , فمعظم الذين نهجوا نهجهما أخفقوا و لم يستطيعوا أن يخلقوا لأنفسهم أصواتهم الشعرية الخاصة بهم , فظلوا مقلدين لا شأن لهم.. أنا على الرغم من إعجابي الشديد بهما لا أحاول تقليدهما فبيني و بينهما مسافات في الثقافة و التجربة و الموهبة بل أكتب حسب إمكاناتي التفعيلية المتواضعة التي تعبر عن شخصيتي أنا فمن المعيب أن أتسلق و أهتف : أنا الشاعر الذي لا يشق له غبار .. أنا لا يغريني الاسم المشهور بل أقف باحترام أمام نص شعري باذخ لشاعر أقرأ له لأول مرة , فكفانا تقديسا لأسماء بانبهار , لأن هذه الأسماء ليست مستعدة أن تمنحنا شهادة الشعر و علينا الحصول عليها بجدارة و اقتدار و إلا
س5 : هل ترى مستقبلا لقصيدة النثر في الجزيرة ؟
يقال إن المستقبل لقصيدة النثر عموماً , لكني أضيف بشرط أن يتوفر لها الشعراء الموهوبون حقا في الجزيرة و سورية عموما , معظم الشباب يكتبون هذا النمط ربما استسهالاً فعندهم أن كل تحرر من التفعيلة و الوزن هو فتح في عالم قصيدة النثر , و حسب قراءاتي المتواضعة لهذا النمط فان معظم ما أقرؤه لا يمت إلى الشعر بصلة .. مشكلة الشعر المنثور إنه هو نفسه صار مكرراً و معاداً , ففي البداية قلدوا أدونيس و سليم بركات و الشعر المترجم و بعض الأسماء الأخرى ثم صاروا يقلدون أنفسهم بكلام مجتر أقرب إلى الجعجعة منها إلى الطحن.. إنهم لا يحاولون قراءة الشعر التفعيلي لذلك ترى جذورهم غير راسخة و اغصانهم غير سامقة لأني من أنصار قراءة التراث حتى الشبع و الارتواء ثم محاولة تجاوزه هكذا فعل كل الشعراء الأصليين قديماً و حديثاً أن قصيدة النثر إذا ظلت على حالها التي هي عليه الآن فلن تتطور قيد أنملة كتابات متشابهة عجز في اللغة و النحو و ضحالة في الخيال و غرور لا يطاق عدا تجارب قليلة تحاول النهوض بهذا الشعر لكنها تكرر نفسها و تصطدم رأسها بجدار الغير ثم تدرك إنها ميتة لا أتمنى أن يغضب مني أحدا فلست ضد قصيدة النثر إذا اثبت أنها حبلى بالماء الزلال لا بالسراب العضال
س6 : هناك تصانيف عديدة للشعر ( سياسية و شكلية , اجتماعية ) كيف تنظر إلى هذه التصانيف , وما مدى اهتمام الشعراء بها ؟
هذه التصانيف مدرسية متعلقة بفترة ظهور المذاهب و المدارس الأدبية و الالتزام و ظهر ذلك جلياً عند الشعراء الرواد في النصف الثاني من القرن العشرين , و هذه التصانيف لم تخدم قضية الشعر لذلك سقط الكثير من النماذج الشعرية و لم تعد مقروءة و ليست لها إلا قيمتها التاريخية .. من جهة أخرى ما من شعر إلا و يخدم قضية سياسية , اجتماعية لكن بطريقة غير مباشرة , أما أشكال الشعر مففروضة و لا يمكن نكرانها
س7 : كيف تقيم قصيدة ما ؟ ومتى تقول عنها إنها شعر ؟
أقيمها من خلال ذوقي و تذوقي كوني قارئاً جيدا و أقول عنها شعر عندما يهزني من الأعماق و يجعلني مغتاظا مغتبطاً حسوداً كوني لست أنا كاتبها .. أقرؤها مرارا و تكرارا دون شبع و ارتواء , ثم أبحث عن أسباب روعتها فأنظر في اللغة و تفجيرها و الصورة و ابتكارها و عذوبتها و الخيال و جموحه و العاطفة و صدقها و هكذا أحيانا يستوقفني بيت أو جملة أو مقطع فأعتبر هذا القليل أهم من ديوان شعري ببغاوي لا روح فيه ولا حياة .. فاسم الشاعر لا يخدعني أو يغريني بالإعجاب بكل ما يقول فلكل جيده و رديئه و قديما قال البحتري : جيد أبي تمام أفضل من جيدي و رديئي أفضل من رديئه , فأبو تمام لا وسط لديه إما في السماء و إما في الحضيض و هذا ينطبق على كل الشعراء بما أنا و أنت و لا تنس أن الأذواق مختلفة و علينا ألا نعول على آراء كل من هب ودب فأدونيس مثلاً لا يكتب للعامة و الأمسيات لاستجرار التصفيق الرخيص , لذلك شعره لا يهضم فهو يكتب للنخبة المثقفة ثقافة سوية عصرية وهذه نسبتها في مجتمعنا قريبة من العدم
و قد سبق لي أن كتبت مقالات في قصائد مختلفة مدحاً و ذماً , ضاق أصحابها بي ذرعاً و تدخلوا لصد كتاباتي في إحدى الجرائد المحلية , قبل عقدين من الزمن و أوقفوها و كادوا أن يوقفوني و أنا حتى الآن معجب بالقصائد التي تتناسب ذائقتي الأدبية سواء أكانت كلاسيكية أو تفعيلية أو نثرية و من هنا حبي لقصائد الجواهري و أدونيس و محمد عمران و بهذا المنظار أنظر إلى شعري فأحكم له و عليه دون رأفة أو رحمة
س8 : لماذا انسحب القارئ من ساحة الشعر الحديث ؟
لا العيب في الشعر الحديث فهناك حركة ردة رهيبة عن المطالعة و عزوف مخيف عن الشعر إلى حد التلاشي و ذلك لاسباب كثيرة منها عدم الإيمان بجدوى الكلمة في تحقيق الأمل المنشود و اللهاث المرير وراء لقمة العيش و سيطرة التلفاز و غيرها من الأسباب فلم يعد الشعر ديوان العرب و فقد حلت فنون أخرى كثيرة محل الشعر لا سيما الفنون البصرية كما أن الحياة أصبحت مثقلة بالخيبات و الهزائم فصار كل ينقلب على أعقابه و يعيش في جزيرة معزولة
ما عليك غلا أن تحصي جمهور الأمسيات الشعرية و تقارنه بجمهور المغنيات و الراقصات أن هموم الإنسان اليومية و مشاغله تنهكه و تفترس معظم وقته و صحته فلا يجد متسعاً من الوقت ليضع رأسه على وسادة الشعر و صدر الفن و لم تعد العلاقات الاجتماعية تتسم بحميمية الأمس , فقد طفت النزعة الفردية و البحث عن الخلاص الفردي السريع , والشعر باله طويل و صبره صبر الجمل 0 بذلك حدث شرخ بين القارئ و الشعر فكل في وادٍ يغني على ليلاه إن النظرة إلى الحياة نظرة نفعية آنية و بما أن الشعر عاجز عن دفع قروش إلى شحاذ و تنظيف شارع قذر و بناء كوخ لمشرد , فمعظم الناس يتحاشونه و يعتبرونه حبراً على ورق.. و لا تنس العلاقات المتفسخة التي تنخر في الروح , ففي هكذا أجواء لا يمكن للشعر أن ينمو و يترعرع و هكذا يعيش الشعر غريباً و القابض عليه كالقابض على جمرة و لا أدرى المستقبل يبشر بخير شعري و هذا سبب كبير لتعاستي و كآبتي و ما يحقق لي هذا العبء أنني أكتب الشعر و أقرؤه لنفسي بمازوشية عارمة
س9 : كيف تنظر إلى المقولات التالية و التي باتت تتردد بكثرة , تفجير اللغة و تحطيمها و الحالة الشعرية , الإبداع الشعري , قصيدة المستقبل و قصيدة النثر , الحداثة , ما بعد الحداثة ؟
تفجير اللغة : مصطلح مبالغ فيه , فعلى حد علمي لم يفجر اللغة أحد , إنما اللغة تتطور تطوراً طبيعياً و هناك من ينزلها من عرشها السامي إلى الحضيض , إلى أرض الواقع و الناس كما فعل نزار قباني و أما الرقص على حبال اللغة فتشويه لها و ليس تفجيراً
الحالة الشعرية : هي كحالة المخاض عند المرأة , و منها يعيش الشاعر في غيبوبة عما حوله و يغرق في خضم الكتابة حتى التعب , و قد تمر فترة طويلة يعتقد الشاعر أنه أفلس و لم يعد لديه ما يقوله و ثم تأتيه الحالة من جديد و هكذا حتى الوصول إلى سن اليأس و الموت الإبداعي
الإبداع الشعري : مصطلح يتجد د على الدوام , و لا يكون إبداع إلا إذا توفرت الموهبة العميقة مع الثقافة الأدبية و الشمولية مع الصدق الفني لذلك نرى المبدعين قلة في كل زمان و مكان
القصية التجريبية : هي المحاولة المستميتة من أجل الوصول إلى القصيدة المشتهاة و هذه لا يبرع فيها إلا كل من أوتي حظاً عظيماً و ليس كل من هب و دب من المشرفين على الثقافة و صفحاتها المريبة
قصيدة المستقبل : كل قصيد ة رائعة هي ابنة الحاضر و المستقبل و لعلك ترى بعض القصائد لا تفنى بل تظل تسرح وتمرح في أعماق القلب و الذاكرة أما القصيدة الباهتة فتولد ميتة على الرغم من احتفاء صاحبها بها لكن الزمن العادل لا يحتفظ بجثتها طويلا فرائحتها تفضحها
قصيدة النثر : ثمة نماذج محلقة و جميلة لهذا النمط لكنها نادرة أما النماذج الرديئة فيكتظ بها السوق الأدبية و هي مازالت محل اخذ و رد بين متعصب لها و متعصب عليها لكنها قصيدة فرضت نفسها مرة بالاقتناع و مرات بالقسر و الإكراه
الحداثة : نظرة جارحة و عميقة إلى الحياة بكل تشعباتها و اسرارها
ما بعد الحداثة : أنا بالكاد أفهم الحداثة و ما زلت أحاول الوصول إلى مشارفها أما ما بعد الحداثة فكأنك تسألني عما بعد الموت ..؟؟
س10 : ما رأيك في كتابة كلمات على أغلفة ( الدواوين ) مثل : نفثات – أحزان – خواطر – هواجس – هموم – نثر – نصوص – و ذلك بدلاً من كتابة شعر ؟
هذه الكلمات لا تقدم و لا تؤخر و هي تذكر بالشخص الذي كتب على علبة السكر : هذا ملح لخداع النمل …. الشعر يؤكد ذاته من خلاله هو لا من خلال الكلمات التي ذكرتها , لذلك لا داعي لكتابتها و الأفضل كتابة شعر لتمييزه عن غيره من الفنون الكتابية كالقصة و المسرحية و الرواية أما الذين يكتبون” نصوص” فقد يكون السبب أنه كتب لنا نصوصاً أدبية هي مزيج من الخواطر و الحكايات و غير ذلك , وقد يكون السبب أيضا أن الكاتب يشك في أن يكون شعراً فينجو بنفسه من النقاد و قد تكون هناك أسباب أخرى
باختصار : النص الإبداعي الجميل لا يحتاج إلى عناوين براقة لا يأخذ بها إلا أشباه و أنصاف المبدعين – و قديكون هذا النص الإبداعي شعراً أو نثراً و كلاهما له في النفس مكان و مكانة.. فلماذا التركيز على أن النثر شعر , هل لإعطائه شهادة حسن سلوك..؟ قد يظلم النثر من هذه الحالة عندما نحرره من أثوابه المناسبة و نلبسه اثواباً ضيقة أو واسعة و في الحالتين سيغدو مضحكاً , وشر البلية ما يضحك كما قال أسلافنا الصالحون