
جلسة حوارية رائعة تمت على الفضاء الإلكتروني، تحت مظلة الغرفة ١٩، وضمن سلسلة محاضرات ثقافية، است استضافت الغرفة ١٩ الأستاذ الدكتور عبد الرحيم عزام المراشدة، استاذ الادب والنقد الأدبي في جامعة جدارا / الاردن، في لقاء خاص بعنوان: تداخل الاجناس في مدونة الكتاب أدونيس تناول فيها المحاور التالية: العتبات النصية، اشتغالات النسق الثقافي، الترسيمات البصرية فكانت محاضرة شيقة وتحمل في ثناياها دراسة لمجموعة أفكار ورؤىٰ للكاتب العربي ” أدونيس “
يصعب الإحاطة بكل ما تناولته المحاضرة من إشكاليات وافكار، وخصوصاً ان الكاتب والأديب ” أدُونيس ” يعد شخصية جدلية، ولديه من الأفكار والرؤىٰ ما يصعب الإحاطة به في محاضرة واحدة أو جلسة حوارية، وعند الحديث عن رؤىٰ ” أدونيس ” يبقىٰ الباب موارباً، لبقاء التدفق الفكري والتجديد ما بين ثابت ومتحول، والأفق مفتوحاً لكل ما فيه من حداثة وتجديد..
في كتابتي هذه ساقف عند حوار مختصر بدأت به الدكتورة ” دورين سعد ” من لبنان، جاء على شكل تساؤلات ذات محاور متعددة، حيث تناولت في مقدمة الحديث عن كتاب الثابت المتحول، وأَنَّ هذا الكتاب من الأعمال الفكرية المؤَسِسَة في النقد الثقافي العربي، لأَنَّه يقدم قراءة جذرية للتراث العربي، محققا ثنائية الثابت والمتحول، حيث ان ” الثابت ” هو مقدس وغير قابل للتغيير، و” المتحول ” هو الذي يرمز إلى الديناميكي التاريخي، فتشكل مقدمة الكتاب مدخلا فلسفياً يعلن رؤى ” أَدُونيس ” عن العلاقة بين التراث والحداثة، ويطرح إشكاليات جوهرية حول الهوية والإبداع ..وأشارت الدكتورة دورين أَنَّ اللافت في المحاضرة هو ” الفضاء البصري “، وأَنَّ هذا المحور ذو أهمية خاصة في هذه المحاضرة، وبالعودة إلى انطلاقة الشعر الحر الذي ترافق مع نظام الطباعة الصناعية بتنا نقيِّم القصيدة قبل أنَّ نقرأها، وانتقلت القصيدة من العهد الشفوي إلى العهد الكتابي البصري، ومع هذا المستوى المبتكر أصبحت الكتابة وسيلة اتصال تخرج باللغة إلى فضاء جديد حيث يتم إشراك العين (خاصية البصر) في عملية تلقي الدلالات، فالعين تأزرت – بعد مرحلة الكتابة – مع الأذن لإعطاء الدلالات حضوراً مجسداً، وحاولت الكتابة نقل اللغة من مظهرها الزمني المنطوق إلى بعد مكاني مرئي، وباتت الكلمة هيئةً وخيالاً بعد أن كانت صوتاً .
” أَدُونيس ” يعد من أهم الشعراء العرب الذين أَعادوا تشكيل اللغة الشعرية بصرياً وجمالياً، حيث تحولت القصيدة عنده إلى فضاء بصري تجاوز الكلمات إلى تشكيل فني، مما يجعل النص الشعري لوحة تشكيلية قائمة بذاتها .. وانتقلت الدكتورة إلى تحديد المحاور في الحديث من خلال أسئلة محددة ذات طابع فكري حداثي، فكان المحور الاول يتعلق بالإشكاليات الجمالية والبصرية، فهل يمكن اعتبار الانزياح البصري في شعر ” أدونيس ” تدميرا للغة الشعرية أم تطهيراً لها؟
المحور الثاني في إشكاليات التأويل والدلالة، هل الانزياح البصري يضيف دلالات جديدة للنص أم يفرغه من معناه ؟، وفي محور الحداثة والتراث، هل الانزياح البصري عند ” أَدونيس ” قطيعة مع التراث الشعري العربي أم هو إعادة صياغة له؟
محور ” إشكالات التلقي والتأثير ” أثار تساؤلات لدى الدكتورة ” دورين سعد “، فجاء التساؤل؛ كيف للقارئ العادي أن يتعامل مع نص بصري معقد مثل قصائد ” أَدُونيس “؟ وأتبعت هذا السؤال بسؤال أخير عن ” الفلسفة الوجودية ” لتنهي حديثها حيث قالت: هل الفراغ في قصائد ” أَدُونيس ” يعكس أزمة الوجود أم هو محاولة لخلق عالم متوازن؟وبذلك أنهت الدكتورة سعد تساؤلاتها لينتقل زمام الحديث إلى الضيف المراشدة ليرد على تلك التساؤلات في حدود تلك المحاور، مشيراً إلى عمق ما طُرح من أسئلة عميقة جداً ومتميزة وباحترافية عالية، وإن كانت التساؤلات كثيرة إلا أنها تصب في عمق الموضوع وتعطي إضافة نوعية للحوار.
وبدأ المراشدة حديثه عن ” الانزياح ” أو البياض أو الفراغ، الذي عبر عن حبه له، وقال بأَنَّه اطلع على قصائد غربية مثل The Swan
” الاوزة “، والقصائد اللونية، وأَن أحدهم كتب: TRRRRRM ليعبر عن صوت يشبه صوت الموتوسيكل، وأَنَّ هناك كتب كثيرة صدرت عن الترسيمات البصرية، وتحدث ايضا عن أربعة اصدارات له شخصيا تظهر فيها هذه السمات، وقال انه تأثر بـ ” أَدُونيس ” وأَنَّه تَعلم منه من غيره في هذا الجانب، كما أنه لديه من القصائد – أي المراشدة –في هذا السياق، وقد كُتبَ عنها في الأوساط العربية، وأَنَّ لديه قصيدة في أحد الاصدارات هي ” الفراغ ” او البياض، فما يحيط بالنص هو جزء من النص، مضيفاً بأَنَّه تأثر بـ ” أَدُونيس ” في مرحلة ما، وظهر ذلك في ” كتاب الأشياء ؛ التفاصيل والأحوال “، ولم يكتب في العنوان كلمة ” تجنيس “، معربا أَنَّه لم يجنس الكتاب، فهو ليس شعراً، لذلك آثر أَن يسميه ” كتاب الاشياء؛ التفاصيل والأحوال “، وأَنَّ لديه كتاب اسمه ” الأشياء والصمت “، ويظهر فيه تأثره بالكاتب ” ميشيل فوكو ” وبكتابه ” الكلمات والأشياء ” وكتابه ” حفريات المعرفة ” ..
ولتوضيح ” نظرية الانزياح ” في الكتابة الادبية التي هي نظرية ” جان كوهن ” حيث طرح ” كوهن ” مصطلح ” الانزياح ” كخاصية للنص الشعري لتوضيح الصورة التي يكون بها الانزياح، يقدم كوهن تعريفا للأسلوب، فالأسلوب هو “كل ما ليس شائعا ولا عاديا ولا مطابقا للمعيار العام المألوف”، وإنه يحمل قيمة جمالية فالأسلوب بذلك انزياح بالنسبة إلى المعيار، أي أنه خطأ، ولكنه خطأ مقصود.
وكذلك ” جون داريدا ” قدم شيء للنقد، ونحن العرب، نصدر أحيانا أشياء ونعود ونسترجعها او تعود لنا على شكل نظريات، وهي في الأساس موجودة في تراثنا الأدبي، إذا ما بحثنا عن جذورها فهي موجودة في التاريخ العربي أو التراث الثقافي لدى العرب، فإذا أخذنا كتاب ” اللغة؛ المعنى والسياق ” لمؤلفه جون لينز، فهي تعيد كلام ” الجرجاني ” في نظرية ” النَظم “.

د. دورين نصر
وفي الحديث عن ” نظرية الانزياح ” تظهر أهمية هذه النظرية كونها تعطي دلالات جديدة، فمثلاً؛ أورد الجرجاني نثر أو تفكيك لبيت شعر ” قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.. ” وأعاد بناءه نثراً فقال ” نبكي ذكرى الحبيب “، فكانت دلالته مختلفة ولم تخدم النص، لذلك كان الانزياح عند ” جان كوهن ” يبحث هذه المسألة، وأنَّ أي تغيير في المبنى يؤدي إلى تغيير في المعنى بالضرورة، التقديم والتأخير، الحذف والزيادة، والمضمر … الخ ..
وإجابة عن التساؤل عن القارئ البسيط او المتلقي العادي، فأشار المراشدة إلى وجوب تطور المتلقي أو تحوله، إن جاز التعبير، فـ على المتلقي أن يقرأ ويشارك في إنتاج النص، وإيجاد الفكرة داخل النص، فالكتاب هو وسيط بين المتلقي ومنتج النص أو منشئ النص، وهو مجمل أفكار، وبالتالي عندما يستعصي النص على المتلقي فعليه أن يعيد القراءة مرة ومرتين وثلاث، وسوف يتطور المتلقي مع هذه الإعادة شيئاً فشيئا، ويتقدم في فهم النص والدلالات، ومن هنا لا يكون النص مغلقاً، وتكون هذه الانزياحات مهمة بإشراك المتلقي أو القارئ في انتاج المعنى والدلالة والنص .
وأشار المراشدة كذلك إلى الدكتور محمد عادل الجابري وقراءاته الثلاث؛ الاستنساخية، والتأويلية، والتشخيصية، وأَنَّ الإنسان او المتلقي إذا قرأ قراءة تشخيصية فإنه يركز على تشخيص عيوب النص، نقاط الضعف في النص، وكما قال ” جاك داريدا “؛ أَنَّ لكل نص قوى عاملة تسهم في استنطاقه وجعله يتفكك من تلقاء نفسه، وعليك أن تقف على نقاط الهيمنة في النص ومفاتيح النص التي منها تدخل إلى النص وتعيد بناءه وتكتب، وأَنَّ ما أراده ” داريدا ” ليس فقط أن تقرأ وتفكك.
وفي إجابة عن تساؤلات محور ” الوجودية لدى أَدُونيس ” قال: ” إِنَّ أَدُونيس عالمه وجودي في النقد الثقافي، وإِنني إذا أردت أن أدرُس أَدُونيس فإنني أدرُسه وجودياً، لأنَّه متحول في هذا الجانب “، مشيراً أنَّ أََدُونيس درس ” السريالية والصوفية ” وله كتاب في ذلك، وعندما نقول ” السريالية والصوفية ” فهذا حديث عن الوجودية.
وأَنَّ أَدُونيس يحاول أن يجد معنىً جديداً للوجود من خلال الجانب البصري، لذلك كان لديه حلم في أوائل كتابة أن يصل إلى مستوى شيء اسمه ” الكتابة ” كما لو كان نصاً متعال على الأجناس، أو يصعب تجنيسه، وأَنَّه على القارئ أو المتلقي تجنيسه كما يراه مناسبا، وبالتالي؛ القارئ من يقوم بالتجنيس، فليس شرطاً أن يكتب الكاتب قصة، أو قصيدة، أو رواية أو خاطرة، إنما يكتب نصا ويترك المتلقي يحدد مبتغاه..
إن ما ورد في محاضرة الأستاذ الدكتور عبدالرحيم المراشدة، والتساؤلات الكثيرة التي أجاب عليها أكثر بكثير من محتوى هذا المقال، وان موضوع المحاضرة الذي يتعلق بالكاتب الكبير أَدُونيس يحتاج إلى ندوات ومحاضرات عديدة للإحاطة بأفكاره ورؤاه..