كانت الأمسية تجر ذيلها الطويل خلف النافذة، حيث جلس عمران على كرسيه الهزاز، يحدق في الفراغ المتسلل عبر زجاج النافذة الملطخ بالضباب. دار المسنين كان ساكنًا، إلا من همسات عجائز يتهامسون عن الماضي كأنه حاضر لم يغادر. لم يكن ينتظر شيئًا، فقد اعتاد على خيبات الانتظار منذ زمن بعيد، لكن ذلك المساء حمل إليه ما لم يكن في الحسبان.
ورقة صغيرة، مطوية بعناية، وُضعت عند عتبة غرفته. التقطها عمران بأصابع مرتعشة، فتحها ببطء، وقرأ الكلمات القليلة التي كُتبت بخط مرتبك لكنه واضح:
“عمران، أنت تعيش حياة ليست لك. كان من المفترض أن تكون في مكان آخر، تعيش حياة أخرى.”
توقف الزمن للحظة. من كتبها؟ ولماذا الآن؟ هل هي إحدى ألعاب القدر المتأخرة؟
لم يمض وقت طويل حتى تكررت الرسائل، كل واحدة منها تكشف عن تفاصيل دقيقة لحياة أخرى، أقرب إلى ذاكرته من أن تكون وهماً. في إحداها، جاءه همس غريب:
“لو اخترت السفر حين سنحت لك الفرصة، لكنت الآن رجل أعمال في إسطنبول، تملك منزلاً يطل على البوسفور.”
وفي أخرى:
“لو لم تتركها في ذلك اليوم، لكانت زوجتك الآن، وكان لديكما أبناء يملؤون حياتك بالدفء.”
كان الأمر أشبه بحكاية كتبها شخص يعرف كل ما لم يحدث، كل الأبواب التي لم يفتحها، كل الطرق التي لم يسلكها. وفي إحدى الرسائل، جاءه الاسم والعنوان—رجل في مدينة بعيدة، يحمل ذات لقبه، ويعيش الحياة التي ضاعت منه.
لم يستطع مقاومة النداء. غادر الدار للمرة الأولى منذ سنوات، وحمل حقيبته التي لم تحمل وزناً بقدر ما حملت من أسئلة. حين وصل، طرق باب الرجل، فُتح الباب، وتراجع عمران خطوة إلى الوراء… كان الآخر يشبهه حد الارتباك، لكنه بدا أثقل عمرًا، أو ربما أثقل بحياة لم يعشها.
“كنت أنتظر مجيئك”، قال الرجل بصوت هادئ.
جلسا متقابلين، يتأمل كل منهما الآخر كأنهما وجهان لمرآة تشظت عبر الزمن. روى له الآخر عن قرارات صغيرة صنعت فارقًا شاسعًا، بينما جلس عمران يوازن بين ما كان وما لم يكن. وأخيرًا، سأله الرجل:
“لو عاد بك الزمن، هل كنت ستختار طريقًا مختلفًا؟”
نظر عمران إلى انعكاسه في عيني الرجل، ابتسم بحزن، وقال بصوت خافت:
“ربما… لكنني الآن هنا، وهذه حياتي… حتى لو كانت مستعارة.”
خرج إلى الشارع، استنشق الهواء بعمق، وأحس لأول مرة منذ زمن طويل أنه حي، ولو للحظة واحدة.
