
لم أتخيّل يومًا أن أُستدعى من أرشيف الذكريات النقدية، لا بسبب مضمون مقالٍ قديم لي، بل بسبب اتهام عجيب: أن المقال “كُتب بالذكاء الاصطناعي”!
ذلك المقال، الذي نُشر في إحدى الجرائد الثقافية منتصف سبعينيات القرن الماضي، وتناول نظرةً تأملية في النقد الأدبي العربي القديم، كانت كتابته ثمرة ساعات من المراجعة والاطلاع، وبوحًا لغويًّا واعيًا صيغ بأسلوبي الشخصي، المتأثر آنذاك بتيارات الحداثة والنقد البنيوي. واليوم، وبعد مرور نحو خمسين عامًا، يعرضه صديق فضولي – دون قصد إساءة – على إحدى أدوات الكشف عن الذكاء الاصطناعي، فتجيبه الأداة بيقين مُبهم أن المقال “مولّد آليًا”!
في لحظة كهذه، لا يملك المرء إلا أن يتأمل المفارقة: أأُكافأ على جودة لغتي بدعوى أنني كتبتها كروبوت؟ أم أن خوارزميات هذه الأدوات باتت عاجزة عن التمييز بين الذكاء الحقيقي، والذكاء الذي نحاول برمجته؟
لقد بات من المعروف أن معظم أدوات “كشف الذكاء الاصطناعي” تعتمد على أنماط احتمالية، لا على أدلة قطعية. فهي تبحث عن نماذج لغوية مكرّرة، أو سرد متماسك جدًا، أو سلاسة غير معتادة في الكتابة، فترى فيها “بصمات” الذكاء الاصطناعي، ناسفةً بذلك كل جهد بشري واعٍ اجتهد في جعل اللغة سلسة والمعنى واضحًا.
والمفارقة الأشد مرارة، أن هذه الأدوات تَفشل أحيانًا في تمييز نتاج طلاب جامعيين كتبوه بأنفسهم، وتتهمهم زيفًا بالاحتيال، لمجرد أن أسلوبهم “أكثر نضجًا” مما يُتوقّع من بشر!
إن الذكاء الاصطناعي اليوم لا يواجه فقط أزمة في الأخلاقيات والخصوصية، بل أيضًا في التمييز بين الإبداع البشري والإنتاج الآلي. لقد أصبحنا، نحن الكتّاب والنقّاد، مطالبين بإثبات “بشريتنا” في نصوص كتبناها قبل ولادة الإنترنت، بل وقبل اختراع الحواسيب المحمولة!
إنني لا أرفض التكنولوجيا، بل أؤمن بقدرتها على تسهيل الكتابة والبحث، لكنني أرفض أن يُستبدل “الذوق” بالخوارزمية، و”الاجتهاد” بالمعادلة، و”الأسلوب” بالإحصاء.
فالكتابة، حين تكون حقيقية، لا تُكتب بالحروف فحسب، بل بالذاكرة والانفعال والجهد والتجربة الإنسانية. وهذه لا آلة يمكنها أن تحاكيها، مهما تطورت خوارزمياتها.
أدعو كل من يعمل في حقل النقد والأدب إلى أن يتعامل مع هذه الأدوات التقنية على أنها مساعدات احتمالية، لا محاكم تفتيش لغوية. فلنحذر من إسقاط أحكامها على نصوصنا وتاريخنا دون وعي، فالإبداع الحقيقي لا يُقاس بنظام ذكاء، بل بذائقة قارئ، وبروح كاتب، وبزمن لا يعود.