في زحام هذا العصر المليء بالضجيج والتغيرات السريعة، يبدو أن الحاضر لم يعد مألوفًا لنا، لم يعد يشبهنا، لا في ملامحه، ولا في دفئه، ولا في صدقه. نعيش وكأننا في زمن مستعار، لا ننتمي إليه، ولا ينتمي إلينا. ولهذا، كثيرًا ما نجد أنفسنا نلتفت إلى الوراء، لا هربًا من الواقع، بل حنينًا إلى لحظات خالدة، ومشاعر صافية، ووجوه افتقدناها.
لماذا نعود؟
لأن الماضي لا يحاسبنا. لا يطلب منّا أن نكون أقوياء، ناجحين، متماسكين. الماضي يحتفظ بنسخنا البسيطة، المطمئنة، التي لم تخذلها الحياة بعد. في حضن الذكريات، نعيد ترميم أرواحنا، نلملم الشظايا، ونستعيد صوتنا الذي غرق في زحمة العالم
الماضي، رغم أنه لا يعود، فإنه يظل حاضرًا فينا كوشمٍ على القلب. نتذكره كلما شعرنا بالخذلان من واقع لا يرحم، أو كلما غابت عنها المعاني التي كانت تمنح أيامنا طعمًا مختلفًا. فالأشياء الجميلة التي غادرت مع الأمس، لم تكن مجرد تفاصيل، بل كانت أسساً قامت عليها أرواحنا.
نحن لا نبكي الماضي لأنه مضى، بل لأن الحاضر لم ينجح في أن يمنحنا شيئًا يستحق التعلق به. لذلك نسافر إلى ما مضى ،نسترجع ضحكة، نعيد قراءة رسالة، نراجع صوراً عتيقة،نسمع أغنية قديمة فنشعر أننا نعود إلى بيتنا الأصلي بعد طول غربة.
ربما لا يكمن الجمال فقط في ما مضى، بل في الطريقة التي عشناه ،بقلوب أقل تعبًا، ونوايا أكثر صفاءً. وربما، نحن أيضًا لم نعد كما كنا. لقد غيرتنا الحياة، وبدلت فينا ملامح الطفولة، وطمست شيئًا من تلك البراءة التي كانت تلوّن أعمارنا.
لكن، ورغم كل شيء، لا بد من أن نعيش هذا الحاضر بكل ما فيه، لا لننسى الماضي، بل لنصنع لحظات تستحق أن تُذكر يومًا، حين يصبح هذا الحاضر ماضيًا آخر.