دراسة نقدية بقلم علي محمد العبيدي
قصيدة الدكتورة الأديبة والشاعرة دورين سعد
أقول “هو” و أقصد “أنتَ”
أزيل عن جسدي قطع زجاجٍ
و أبحث عن شهقةٍ
ما زلتُ أمرّغ وجهي بها،
تلك الأنفاس كانت تحدث ندوبًا
في مرآة كنّا نعبرها…
بيني وبيني كان “هو”…
أنظر إليه لأبحث عنه
هو الآخر الذي ترك ثُقبًا في أعماق الّلحظة
ففي أيّ اتّجاه أُبحر لأقطف غيمة
و تفاصيل الثواني ذابت
في أمسٍ ضائع
يقيم بيننا
كساعة معلّقة على جدارٍ أعزل
عقاربها تدور عكس الشّمس
و الضوء يتلاشى أمامنا لكنّنا لا نراه…
و بين شظايا الزمن العالقة
نرمّم فراغًا برقعة برق،
و يدفق الرحيل…
و أنا مازلت واقفة بيني و بيني…
كلّما أقول “هو”
أقصد “أنت”…
هذه القصيدة لها اسرار وخفايا ينبغي الوقوف عندها وتأملها بعمق
يجب أن نفهم كنه أحاسيس الشاعرة في لحظة وقوع الحدث وفي لحظة حصول الومضة التي أحدثت الفكرة كيف لنا أن نتمكن من مشاركتها هذا العمق عند هذا الغوص كيف لنا أن نصل الى حقيقة ما همست به المشاعر وباح به الاحساس دون نطق أو حتى إشارة من طرف خفي، أو بما يرتسم من تقاسيم ظاهرة على الوجه ، نلتقطه بطريقة يسيرة لكي نستشف بعض ما يدور في فكر الشاعرة، ان المواقف التي صاغتها الشاعرة وفق تصور يعج بصور يضنها المتلقي انها تتلاشى مع كل انتقالة وهي في حقيقتها تتميز بالثبات وليس لها صيرورة طارئة لانها ترافق جميع الجوانب الحسية والمعنوية في النص ولا تنفك عن كل موقف تمر به وحدث يطرأ ويحدث تغيرا زمانيا كان أو مكانيا ،وتعطي معاني متعددة لكل زاوية يقف عندها الناظر المتفحص لكي يقتنص ايحاء صوري أو إشارة معنوية تستثير احساسه بحسب قدرته الخيالية.
ان التحليل الدقيق للنص من خلال معاني الالفاظ ومن خلال الصور الحسية والمعنوية وعدم الذهاب في تفسيرنا للنص بأسلوب ما ورائي ميتافيزيقي ، واذا ما عالجناه معالجة ذاتية خفية وحللناه تحليلا منطقيا من خلال المشتركات الذاتية المعنوية منها والحسية مع عدم الإلتفات إلى أثر الدلالة اللفظية والوقوف عندها طويلا مع العلم أن اللفظ هو أصل في الوضع وهو يختص بالشيء الدال علية حين وضع ولكن وجب التجاوز والانتقال عنه للازم الخيال الذي فرضه النص وبذلك سوف نتوصل الى نتائج مبهرة في دراستنا لهذا النص، إن التصور الفكري والتعايش مع حقيقة الظواهر الطبيعية والتفاعل معها وفق رؤية مادية ورؤية خيالية تصورية رسمتها الشاعرة في ذهنها ومنها حدث الانتقال إلى طريقة توظيف هذه الرؤى واستغلال بعض من خفايا صورها المرتبطة بالخيال أو بتعبير أوضح الصور القادحة للومضة الخيالية الغير مفهومة في الادراك الحسي الإعتيادي لأنها عملية تورية لفظية تتفاعل مع حاله خيالية تنقل التصور الفكري إلى عالم آخر يمكن من خلاله استيعاب مفاهيم جديدة من واقع الحياة والتعامل معها على انها صورة واقعية يعيشها المتلقي وقد عبرت عنها الشاعرة بطريقة مدهشة.
واذا ما تعمقنا في قراءتنا للنص نجد أن الشاعرة تفننت في عملية تداخل الصور الخيالية في تفاوت درجاتها والتي صنعت منها مواقف وحالات بديعة الجمال والتنوع مألوفة لمن يحس ويشعر بها بالرغم من صعوبة استيعاب التركيب اللفظي في بعض الأحيان أو القصور في الوصول إلى الأفكار العميقة المخزونة في ذهن الشاعرة، لكنها استطاعت أن تضعها في معيار القياس الإقناعي القوي الذي فرضت من خلاله تصديقا عقليا وبصريا واضح المعالم يخيم على أفكار المتلقي.
إن توهج الذكاء والفطنة لدى الشاعرة التي رسمت بها الصور الخيالية للجمل والمقاطع تظهر مدى القدرات المهارية للشاعرة وتبرز بوضوح المواهب الإبداعية التي تتمتع بها وتوضح قدراتها على ابتكار قنوات إتصال بين شخوص وصور متخيلة غير متفقة لتؤلف منها صور حية ومتطابقة بطريقة منطقية مقنعة تتوافق بعذوبة وابهار مع ما تهدف إليه في ثنايا النص.
ولا بد من الإشارة الى قدرات الشاعرة في عملية التحول الخيالي قد أعطاها مساحات واسعة التنوع للتعبير عن الصور المعنوية المرسومة في مخيلتها وكيفية استكشاف وسائل التعبير المناسبة لعرضها يلحق بها وصف المواقف المختلفة التي تحدثت عنها من خلال النص.
ولو اننا سلكنا منهج التيار التحليلي الفلسفي . ثم قمنا بترجمة العبارة إلى صيغة أخرى أوضح مما كانت عليه، لكي تمكننا من الربط بين الألفاظ اللغوية والصيغ المنطقية وبنفس الوقت تعطينا مدى أوسع في فهم النص والتوسع في تحليله أن عملية التحليل المتبعة هو رد العبارة إلى صيغ منطقية؛ لأن اللغة مضللة في مثل هذه الأنواع من النصوص، واذا ما وجهنا العناية إلى الدراسة المنطقية للغة وفق صيغ توضيحية.
واتبعنا صيغة التحليل المنطقي سوف نحصل على شيء مختلف تمامًا أكثر وضوحا، ويقودنا نحو معرفة علمية ومنطقية في نفس الوقت تمكننا من الإبحار مع الشاعرة ومعرفة اتجاه بوصلتها التي ستقودنا الى استكشاف مقاصد وخفايا النص الذي يتميز بخصائص فلسفية لا يمكن التكهن بها من خلال دراستها نحويا وصرفيا وبلاغيا.
ولكن إذا استخدمنا طريقة البحث الفلسفي في دلالات و تفاصيل النص فسوف يتحقق لنا الكشف عن جوانب عديدة من اسرار النص كان لزاما عليّ أن أقدم هذه المقدمة لكي يسهل فهم واستيعاب النص ولكي أتمكن من إبراز محاسن قيمته الأدبية ويسهل علينا الدخول في عمق النص بيسر وسهولة
الزجاج
هل هو غطاء حامي؟
هل هو حاجز من شيء
ام هو حد فاصل؟
لماذا تكسر ؟
باي شيء تاثر ؟
هذا الزجاج هل جزء من الجسد الحي؟
نعم انه جزء حي من هذا الجسد المتسامي الذي يحمل هذه الروح الشفافة ذات الاحساس المرهف الذي يمخر عباب بحر هذا الخيال الواسع الذي تجوبه الشاعرة وتبحر فيه كيف تشاء
كيف يمرغ الانسان وجهه بالشهقة؟
هي تحدث في داخل الجسد ولكن كيف يظهرها ويضعها على ظاهر الجسد وكيف يتمرغ بشيء يتطاير مع الرياح؟ نعم انه هو الانسان من يصنع كل شيء ويوجه كل شيء في الدنيا بحسب إيحاء العقل بفعل أسرار ما وهبه الخالق سبحانه من خوارق القدرات العجيبة
استخدمت الشاعرة معايير متعددة الدلالات لضبط التوافق بين الصور الخيالية وبين حقيقتها الحسية
بيني وبيني كان “هو”…
أنظر إليه لأبحث عنه
هو الآخر الذي ترك ثُقبًا في أعماق الّلحظة
ففي أيّ اتّجاه أُبحر لأقطف غيمة
حالة التماثل والامتزاج الحسي الذي صورته الشاعرة في قولها (بيني وبيني كان هو)
هل هو حالة التوأمة المتماثلة؟
أم هي حالة تجاذب حسي جعل منهما معدنين يحملان نفس الصفات والمقومات ذابا في منصهر واحد ونتجت سبيكة لا يمكن فصل بعضها عن البعض الآخر ؟
في اعتقادي انها قصدت الصورة الثانية كما دل عليه النص في محطاته الاخرى
(ترك ثقبا في اعماق اللحظة)
وهذه الحالة تصور لنا حالة توافقية بين المادي المدرك الملموس وبين ما هو معنوي محسوس وقد رتبت الشاعرة تسلسل الحقائق الملموسة ومن ثم ادخلتها على صيغة أخرى غير متطابقة مع الأولى وبهذه الطريقة فسرت الخفي المتواري عن البصر بظاهر واضح للعيال وهذه الطريقة المدهشة تضفي مناخا يتناسب مع التصور الخيالي الذي ارتبط مع الصورة العينية المادية وهنا أصابت الشاعرة هدفها الذي قصدته منذ أن استهلت القصيدة بطريقة تسترعي الإنتباه عن طريق صياغة العبارة بدقة.
ثواني ذابت
في أمس ضائع
يقيم بيننا
كساعة معلقة على جدار أعزل
عقاربها تدور عكس الشمس
كما هو معروف لو وضعنا الساعة مع البوصلة في اتجاه الشمال نجد أن الساعة تدور عقاربها عكس الشمس
وهنا عقدة صراع الساعة مع الشمس وهي عقدة صراع الزمن ، ولكن نقف امام حقيقة واقعة هو ان الزمن يسرقنا ويسبق كل شيء في الحياة والطبيعة التي تعيش فيها الكائنات من حولنا، وهنا ننبه على أن الزمن مجرد دالة حسابية بين متغيرين، ولا يمكن فصله أو تجريده بحيث يمكن السفر عبره أو اختراقه ولكن يمكن أن يطول أو يقصر مقارنة بغيره،
و بين شظايا الزمن العالقة
نرمّم فراغًا برقعة برق،
وبين شظايا الزمن العالقة في إشارة إلى غطاء الجسد المحطم الذي غطاه الزجاج، أو هو انتقالة الى محطة أخرى من بين المحطات التي قصدتها الشاعرة وكان لها موقف في حينها لأنها قالت عنها أنها عالقة ولكن أين؟
قد تكون في جدار حقبة زمنية مضت وقد عمدت الشاعرة إلى استخدام قرينة خيالية في عملية الترميم للفجوة الحاصلة في مسار الحياة الطويل وهنا ابدعت الشاعرة في الصياغة البلاغية والتصوير الفني لهذه العبارة الآسرة التي صاغتها بأسلوب ادبي متفرد .
قصيدة متميزة ومتخمة بالمعاني والاستعارات والبديع
تمكنت الشاعرة من التعبير عن مقاصدها بطريقة إبداعية تحسب لها، التصوير الفني يدهش المتلقي ، صورة الاستهلال والخاتمة أعطت بعدا جماليا للنص .
وفي الختام لا يسعني إلا أن أقول إبداع وتألق