_ العين التي أحدّثك عنها، ليست كباقي العيون.
_ وماذا أخبرك جدّك عنها؟
_ قبل أن يخبرني جدّي، فقد أخبره جدُّه بحديث جدِّه: “أضعت ذات نهارٍ حارّ من أيام شهر تمّوز، معزاة من قطيعي الصغير في أعلى الوادي، بعيداً عن منازلنا التي بنيناها في لحف الجبل. فغادرتُ “مأيَل” السّنديانة مع كلبي “أغبر”، ووجهتي أعلى وادي القنفذ، فاهتدى الكلب إلى طلبي في هيشة تغطّي صخراً في أسفل أجمة من أشجار السنديان والعفص، وأخذ يهمهم؛ ومرّت بي لحظات، إلى أن خرجت المعزاة مبتلّة “السكسوكة”. حدّقتُ النظر داخل هيشة العليْق، فلَمَعَتْ قطرات من الماء داخل العليقة تحت أشعّة الشمس اللاهبة كأنّها نار، وذلك دلالة على قدسيّة المكان، فاستولى عليَّ الخشوع، وخِلْتُ نفسي موسى كليم الله، واستعديت لخلع نعليَّ. لكنّ “أغبر” سبقني إلى الدخول في الهيشة ليطفئ عطشه، بسبب القيظ في تلك الظهيرة، وقد فتح مسرباً يؤدّي إلى جرنٍ صغير قديم، قِدَم أسطورة الفينيق؛ كان الماء ينضح من عرقٍ مجروحٍ من الصخر وينساب إلى تجويف هذا الجرن، ليجري منه إلى بقعة صغيرة كوّنت من طحالبها فراشاً لكبوش العليّق، ومنهلاً للنحل. أزلت “الكشاح” بواسطة العصا، ونهلت من الماء الزلزال حتّى ارتويت. عند انتهائي من الشرب، وجدت الماء يغور في أخدود صخرٍ بعد أن يمنح بعضه إلى الطحالب والنحل من دون منّة. أحسست بالانتعاش كما العين التي اشتاقت للقاء أنسٍ بعد وداع من حفر جرنَها؛ تنادت الرعيان إلى المكان، وعادت بهم آثار الجرن إلى تاريخ عريق، عندما أزالوا الركام الّذي وضعه الدهر فوق مجرى المياه؛ فبانت ساقية طويلة مرصوفة بحجارة من صخر “الرهوة”، تنتهي عند جرن صغير تصّب مياهه في أربعة أجران كبيرة قُدّت من صخرٍ صلبٍ. ومذ ذاك الحين أصبحت السّاحة حول هذه العين الدهريّة تضّج بالقطعان، والرعيان، والنساء القاصدات المنهل بجرارهنّ. وبنى الأهالي قبواً من الحجارة المعقودة فوق الساقية، كما بنوا مقاعد حجريّة داخل القبو، لتستريح عليها النساء من تعب الطريق الصاعد؛ وسُرّت السنديانة العتيقة بعرس المياه، وضحكت العين وكانت مياهها دموع الفرح.”
بنى الأهالي “محقاناً” كبيراً، لحفظ المياه التي تفيض عن حاجة قاصديها للارتواء، وتخصرّ إنحدار الأرض تحت العين بجانب الوادي بالجلال، وأصبحت وفيرة الغلال.
_ وبعدها يا جدّي هل عاش الأهالي في النعيم الّذي وجدوه؟
_ يا جدّي الفرح زائل كما الحزن، فقد سيطرت الجيوش الغريبة على الوطن، وفرض العثمانيون على جبّة بشري ضريبة جائرة اسمها “القشلق”، وكان خراب القرية بسبب هذه الضريبة، بعد هروب الأهالي من الطغيان إلى أماكن بعيدة. وبكت العين، وكانت مياهها دموع الأسف على فراق أحبّتها.
_ ومتى عادوا؟
_ عادوا تدريجياً بعد وقت طويل، عندما استقرّت الأمور، ونال جبل لبنان استقلالاً ذاتيّا.
_ جدّي، أين هي تلك العين؟
_ للأسف يا جدّي، طُمِرت العين التي كانت سبب وجود القرية. ولك ما حدث: بنى أجدادنا خزاناً كبيراً من الباطون المسلّح، ومدّوا القساطل إليه من النبع مباشرة، بهدف جرِّ مياهه إلى القرية وتوزيعها على الحارات بعد إنشاء سبلٍ للمياه. فاعترض أهالي “الحارة الفوقانيّة”، وحصل نزاعٌ شديدٌ مع أهالي “حارة التحتا”، وتدخّلت الحكومة وأرسلت فصيلة من الجيش لحفظ الأمن، وإتمام جرّ المياه.
_ وبعد؟
_ وبعد هذه الحادثة، شُقت الطريق إلى الحارة “الفوقانيّة” وطُمرت العين تحت الطريق، وما زال أنين الأجران يخرج من تحت الردم، يطنّ في آذان المخلصين الّذين يحاولون حفظ بقيّة معالم القرية الأثريّة، ولكن بدون جدوى.
وعند كلّ “فيضة” تبكي العين على خلاف لم يجد وفاقاً، وتخرج المياه من حيطان الطريق بدل الأجران، وكأنها تفتّش عن “المحقان” الذي أصبح في خبر كان، وتتحسّر على نسيان أحباب لها، هي التي منحت حياتَهم الحبور.
_ يا جدّي، بما أنّ المياه قد وصلت إلى كلّ منزلٍ من منازل القرية، من مشروع كبير كان حلماً وأصبح حقيقة، ونَعِمَ به أهالي القرية والقرى المجاورة، لماذا لا تُعيدوا الحبور إلى العين، وتزيلوا الركام، لتعود إليها دموع الفرح؟
* “المأيَل” مكان استراحة قطعان الماشية