الهوية الكردية ليست مجرد مفهوم ثقافي أو قومي، بل هي نتاج تاريخ طويل من النضال والوجود المتواصل في منطقة تشهد تقلبات سياسية واجتماعية. الكرد، الذين يعيشون في مناطق متفرقة مثل تركيا، العراق، إيران، وسوريا، كانوا ولا يزالون جزءاً من إرث حضاري غني ومتنوع يمتد لآلاف السنين. في هذا السياق، لعبت المرأة الكردية دوراً محورياً في الحفاظ على هذه الهوية من خلال ثقافتها وتراثها وارتباطها بالنضال من أجل حقوق المرأة والحرية.
تاريخ الهوية الكردية يمتد إلى أعماق التاريخ، حيث كان الكرد جزءاً من حضارات قديمة مثل سومر وآكاد، التي نشأت على طول جبال زاغروس وطوروس والتي كانت ملاذاً ثقافياً وحضارياً يعكس الهوية القومية لهذا الشعب. في هذا السياق، الكرد هم جزء من الشعوب الهندو-أوروبية التي تميزت بتقاليدها الثقافية والاجتماعية الفريدة التي أثرت في تشكيل الهوية الكردية عبر الأزمان. هذه المناطق، ذات الطبيعة الجبلية، ساهمت في تشكيل هوية ثقافية فريدة للكرد، مما جعلهم يتمتعون بإرث غني ومتنوع. طوال العصور، تعرض الكرد لمحاولات مستمرة لتهميش ثقافتهم وهويتهم من قِبل القوى الإمبراطورية المختلفة، بدءاً من الفرس إلى العثمانيين وصولاً إلى القوى الحديثة، التي كانت تسعى إلى فرض سيطرتها عبر طمس هويتهم السياسية والثقافية. فقد كانت هناك محاولات لتقسيم كردستان إلى أجزاء، مما أضعف من الهوية الجامعة للكرد في جميع أنحاء المنطقة. وقد أدت هذه السياسات إلى معاناة الكرد من فقدان الهوية الثقافية، حيث تم فرض سياسات قسرية لتغيير اللغة والموروث الثقافي، مما زاد من التحديات التي واجهها هذا الشعب.
ومع تعرض الكرد لمحاولات قمع ممنهجة طالت كل الجوانب الثقافية، مما اضطر المرأة الكردية إلى العمل السري للمحافظة على الهوية. في تركيا وإيران، على سبيل المثال، تم حظر اللغة الكردية في المدارس والوسائل الإعلامية الرسمية. ولكن لم يقتصر دور المرأة على المقاومة الفردية، بل توسع ليشمل تأسيس مدارس ومعاهد تُدرس اللغة الكردية بأساليب خفية وغير مرئية للدولة. تُعتبر النساء الكرديات عاملات في الحفاظ على الفلكلور الكردي في الحفلات والأعراس، حيث يتم نقل القصص الشعبية، وتطوير الأغاني والموسيقى الكردية بطريقة تشبث بالجذور.
في العراق وسوريا، تعرض الكرد لنفس السياسات القمعية حيث تم محو التراث الكردي من المناهج التعليمية، وفرض النظام البعثي سياسات التعريب القسري ضد المناطق الكردية. هنا، كانت النساء الكرديات عاملات المقاومة الثقافية، حيث قمن بتنظيم أنفسهم بشكل سري ، وأكدن على أهمية الأعياد القومية مثل نوروز كرمز للاحتفاء بالثقافة الكردية.
وفي هذا السياق، كانت المرأة الكردية دوماً الحافظة للثقافة والتراث الشفهي، حيث لعبت دوراً حيوياً في نقل الروايات والأغاني والأساطير الشفهية التي تمثل الهوية الكردية. من تعليم الأطفال اللغة الكردية إلى إقامة الاحتفالات الثقافية، لم تكن المرأة مجرد فرد في الأسرة بل القوة التي تساهم في الحفاظ على الروابط التاريخية والاجتماعية في وجه المحاولات المستمرة لتغيير الهوية الكردية.
و في المجتمعات الكردية، لعبت المرأة دوراً مزدوجاً: فهي المسؤولة عن نقل الهوية الثقافية في المجال الأسري، حيث كانت تقوم بتعليم الأطفال اللغة الكردية وغرس القيم الثقافية والتراثية فيهم. بالإضافة إلى ذلك، كانت المرأة الكردية تلعب دوراً سياسياً واجتماعياً هاماً، حيث ناضلت من أجل حقوقها وحقوق المجتمع الكردي بشكل عام في مواجهة الأنظمة الاستبدادية التي سعت إلى محو هذه الهوية.
لقد كان النضال النسوي الكردي جزءاً لا يتجزأ من الحركة الكردية الأوسع للحفاظ على الهوية الثقافية والسياسية. النساء لم يكن فقط حافظات للتراث التقليدي، بل مدافعات عن الحقوق السياسية والثقافية، حيث أسهمن في تعزيز الوعي الجماعي حول أهمية الهوية الثقافية والحفاظ عليها.
كما أن اللغة الكردية تُعد من الركائز الأساسية للهوية الثقافية، وقد كانت واحدة من أكثر العناصر تعرضاً للقمع. على مر التاريخ، تعرضت اللغة الكردية لممارسات قمعية من قبل السلطات التي حاولت تهميشها وطمسها، خاصة خلال فترات الاستبداد والأنظمة الشمولية. ومع ذلك، كانت المرأة الكردية دوماً هي السد المنيع في الحفاظ على وجود اللغة من خلال الأجيال.
وقد أظهرت الدراسات التاريخية أن النساء الكرديات كن دائماً القوة التي تحافظ على الفلكلور والقصص التي تعكس الحياة الاجتماعية والسياسية للكرد. فالمحافظة على الهوية الثقافية لم يكن مقتصراً فقط على نقل التراث، بل امتد إلى تعزيز الحقوق الثقافية والاعتراف بها، مما ساعد في مواجهة الحكومات المستبدة والمحاولات الرامية إلى طمس الهوية.
النضال من أجل الهوية الكردية لم يكن مجرد ثقافي بل سياسي واجتماعي أيضاً. المرأة الكردية لعبت دوراً مركزياً في مقاومة الأنظمة الاستبدادية التي سعت إلى تغيير الهوية الكردية أو محوها تماماً. فقد كانت النساء جزءاً من الحركات التي تصدت لتلك المحاولات، حيث شاركن في الاحتجاجات والمظاهرات من أجل الحفاظ على ثقافتهن وهويتهن من القمع المستمر. كما أنشأت النساء منصات ثقافية وسياسية للتعبير عن هويتهن ومقاومة القوى التي تسعى لتدمير هذه الهوية، من خلال الفن والتعليم والمشاركة المباشرة في الحركات الاحتجاجية.
إن المرأة الكردية في تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في روجآفا/شمال شرقي سوريا، التي انطلقت عام 2012م، تتجاوز الأطر التقليدية لتأخذ مكانتها في جميع جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، مستلهمة إرثها العميق من النضال والتاريخ الكردي الممتد. في هذا السياق، تعكس الأمثال والحكم الكردية تطلعات الشعب الكردي، حيث تمثل هذه الحكم صورةً حيةً للهوية الثقافية والاجتماعية وتبرز القيم الأصيلة للعدالة، الحرية، والمساواة.
النساء الكرديات، من خلال تنظيماتهن مثل مؤتمر ستار، يجسدن فعالية التغيير المجتمعي، حيث يناضلن ضد الذهنية السلطوية والتقليدية، ويرسمن صورة جديدة للمجتمع الديمقراطي المرتكز على العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين. هذه الجهود تتقاطع مع مبادئ الأمة الديمقراطية التي تهدف إلى تحقيق الحرية للمرأة وتعزيز مكانتها داخل الأسرة والمجتمع، بعيداً عن الهيمنة السلطوية أو الذكورية.
بفضل التدريب السياسي والمؤسسات المتخصصة، استطاعت المرأة الكردية بناء ذاتها بصفتها فاعلة في الحياة السياسية، وقدمت نماذج يحتذى بها في الدفاع الذاتي والتنظيم الحر، مما عزز من دورها في كافة المجالات. وبذلك، تصبح المرأة الكردية نموذجاً يُحتذى به في النضال من أجل الحرية والمساواة والديمقراطية، حيث تعمل على تشكيل واقع جديد يتجاوز الحدود التقليدية للتمييز الاجتماعي والسياسي، محققة بذلك تقدماً نوعياً يتناسب مع تطلعات مجتمع ديمقراطي عصري.
إن تاريخ المرأة الكردية في الحفاظ على الهوية الثقافية والقومية يعكس بطولات عظيمة لا تقتصر على الحفاظ على التراث فقط، بل تتعدى إلى النضال السياسي والاجتماعي من أجل تحقيق الحرية والكرامة لشعبها. عبر العصور المختلفة، تحملت النساء الكرديات المسؤولية الكاملة في الدفاع عن تراث الأجداد، وحماية الهوية الثقافية من المحو والإلغاء القسري. من خلال الدور النضالي الذي لعبنه في الثورة الكردية، والحفاظ على الفلكلور واللغة، والتمسك بالقيم الوطنية، ظل دور المرأة الكردية محورياً في استمرارية الهوية الثقافية الكردية في جميع الأوقات الصعبة.