
ثمة خيط رفيع يفصل بين الذكاء والفهلوة، لكنه ليس خيطاً رماديّاً كما يُظن، بل حدٌّ قاطع مثل السيف، يُميّز بين من يُحسن استخدام عقله، ومن يُتقن الالتفاف على المواقف.
الذكاء يُقاس بقدرة المرء على الفهم العميق، على الربط بين الأمور، على طرح الأسئلة الصحيحة، ثم الصبر على بناء الإجابات. الذكاء يظهر من خلال العمل المتقن والجاد، ويظهر نتائج تبهر من يراها بحسن نتائجه.
أما الفهلوة، فهي أشبه بمحاولة مستمرة للقفز فوق السلالم بدل صعودها. قد تُدهشك بخفّتها، وقد تبدو بارعة في البداية، لكنها تنهك صاحبها في نهاية المطاف، لأنها تقوم على الحيلة والخداع، المغلف بالغموض دون فهم قائمة على المكسب الآني دون حساب ما سيأتي بعده من عواقب.
الفهلوة ربما تنفع صاحبها في بعض المواقف البسيطة ، وتُنقذه من مأزق طارئ، أو تُساعده على إقناع أحدهم، لكنها لا تستطيع أن تبني سيرة وظيفية متينة، أو تصنع من أحد مبدعًا حقيقيًّا.
لأن الذكاء جوهرك من الداخل، أما الفهلوة واجهة مصقولة خلفها فراغ معتم.
دعونا نستعيد، مثالًا قريباً، مما حدث مؤخراً مع الإعلامية المصرية مها الصغير، حين قررت فجأة تقديم نفسها على شاشة أحد البرامج الشهيرة.”فنانة تشكيلية”، لاأحد يعلم من أين امتلكت الثقة الزائدة، والأصح السذاجة، هي ما دفعها للاعتقاد بأن عرض مجموعة لوحات على الشاشة—جمعتها من أربعة فنانين مختلفين ينتمون لبلدان وأساليب متباينة—كفيلٌ بأن يثير الإعجاب ويجلب التصفيق. ما حدث العكس تماماً، مما سبب لها تلك الفضيحة التي جعلتنا نعيد قراءة سلوكيات أمثالها.
اللوحات لم تعبّر عن رؤية واحدة، ولا جمعتها أي صلة أسلوبية أو روح فنية، مما كشف بوضوح افتقارها لأبجديات الفن ومفاهيمه الأساسية. بدا أنها استعانت بالفهلوة دون أدنى احترام لعقل المتلقّي، خاصة عندما طُرحت عليها أسئلة لم تكن مستعدة لها، فارتبكت، وتلعثمت، وانكشفت. أمام متلقي ذكي، فنانة أدركت بحسها الفني ،أنه لايمكن لهذه السيدة، أن ترسم هذه الأعمال المتنافرة أسلوبياً، حتى إجاباتها لم تنم عن ثقافة فنية. مما دفعها للبحث والتنقيب وبسرعة تحولت القصة لفضيحة.
من هنا بدأ الانهيار الكامل للسردية المصطنعة، وتوالت ردود الفعل الغاضبة من فنانين ونقّاد وجمهور يمتلك حساً فنيّاً وذائقة، لا تنطلي عليها فهلوة من هذا النوع.
ولنكون منصفين، يجب أن نعترف أيضاً بوجود جمهور من نوع آخر؛ جمهور لا يبحث عن الأصالة بقدر ما يبحث عن التسلية والضجيج. هذا الجمهور قد يصفق للفهلوة في بدايتها، ويحتفي بالمظهر الخارجي اللامع، لأنه لا يملك الأدوات النقدية للتمييز، أو ببساطة لا يهتم. وبهذا، يصبح هذا الجمهور، عن قصد أو غير قصد، شريكاً مؤقتاً في الخديعة، وهو الوقود الذي يمنح هذه الفقاقيع فرصة للطفو قبل أن تنفجر.
أكتب عما حدث الآن بعد كل ما قيل فيه. لأنّه يعكس بوضوح الثيمة التي انطلقت منها: الذكاء في مقابل الفهلوة، والأصالة في مقابل الزيف. إذ لا يُمكن بناء مجد إبداعي على استعارةٍ كاذبة، ولا يُمكن خداع الذاكرة الجمالية بمشهد مرتجل. في الفن، كما في مختلف صنوف الإبداع، تحكمه دومًا ثنائية واضحة: الأصالة مقابل الزيف. صحيح أن الأعمال الفنية، بطبيعتها التراكمية، لا تخلو من تناصّ أو استلهام، وأحياناً تتقاطع في الأفكار أو التيمات أو حتى في بنى سردية بعينها. وهذا أمر مقبول، بل ومفهوم ضمنياً في سيرورة الإنتاج الفني. لكن أن يُنسب عمل كامل إلى غير صاحبه، فذلك ليس استلهاماً، إنما سرقة وخديعة فادحة لا يليق تبريرها.
وإذا كانت مثل هذه الحيل قد مرّرت على بعض المتلقّين قبل عقدين من الزمن، ما قبل الإنترنت المفتوح، فما عاد ذلك ممكناً منذ ظهور “العم غوغل” الذي قلب معادلة التلقي. فكيف الحال اليوم، في زمن “صديقنا الذكاء الاصطناعي”، حيث من الصعب أختباء الادّعاء، أو جدار يستر الزيف؟
كل شيء قابل للكشف، كل عمل قابل للتتبّع، وكل ادّعاء قابل للتفكيك خلال دقائق.
وبالمقاربة مع صديقنا الذكاء الاصطناعي، الذي فتح شهية كثير من الكتّاب وبعض الفنانين للاستعانة به، نلحظ فرقًا جوهريًا: الذين يمتلكون أدواتهم الإبداعية، يعرفون تماماً كيف يستخدمونه. الفنان التشكيلي، مثلاً يطلب رسم اسكتش مبدئي، ويُجري معه حواراً طويلاً، ليصل لما يُشبه رؤيته.
والكاتب الواعي، قد يستعين به لتحسين صياغة أو توليد أفكار، لكنه يُعيد تشكيل الناتج وفق أسلوبه، فينأى بنفسه عن القطيعة مع ما كتبه سابقاً.
في المقابل، لاحظت موجة من الكسل الفاضح، حيث ينشر البعض مقالاتهم—وهي غالباً بنات أفكارهم فعلاً—لكنها مكتوبة بلغة إنشائية مكرّرة، حفظتها أذني من فرط التكرار.
عبارات نمطية تبدأ بـ”ليست مجرد” وتليها “بل…”، جمل تتكئ على النفي والإثبات المفرط، وكأنها تستجدي الفصاحة، أو تتكئ على كاف التشبيه، وعلى “كان وكنت وكانت”، فتبدو النصوص مثل هياكل لغوية خاوية.
ركاكة لا تُغتفر لقارئ واعٍ، فكيف تُغتفر لكاتب يحترم أدواته؟
ومن يُهرول إلى الذكاء الاصطناعي دون خلفية معرفية، ولا موهبة حقيقية، معتقداً أنه وجد الكنز، الذي سيجعله يتبوأ مكانة عالية، وشهرة يحلم بها، ويسارع بوضع “برومت” أوامر محددة. وينتظر النتيجة ليقوم بنسخها ولصقها على الفور. السيء هنا، أن بعضهم بدأ يُصدّق الكذبة.
ويتغذى هذا السلوك من ثقافة العصر الرقمي نفسها، التي تفرض على الأفراد “ضغط الظهور” وهوس امتلاك “اللقب”. ففي عالم وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الهدف أحياناً هو أن تُعرِّف عن نفسك بصفة: “كاتب” أو “فنان”، قبل أن تكونه بالفعل. هذا الهوس بالهوية المصقولة يجعل من طريق الفهلوة المختصر حلاً مغرياً، لأنه يمنح اللقب فوراً، متجاوزاً رحلة المعاناة والجهد والتطور الحقيقي التي يتطلبها الإبداع.
أحد الأمثلة التي لمستها: سيدة اعتادت مؤخراً نشر نصوصٍ كتبتها عبر الذكاء الاصطناعي، وتُقدّمها على أنها “قصص قصيرة”. ثم تسلّلت إلى موقع مخصص للأدباء، الأمر بالنسبة لي خلف مزيجاً من السخرية والغيظ، فهي تتجاهل أن للكتابة وزناً وثقلاً وإرثاً، يشير إلى البدايات المتواضعة والمرتبكة، صعوداً باتجاه النضج وامتلاك الأسلوب الخاص، ولاتعلم أنّ الذكاء الاصطناعي لن يمنحها إلا نصاً كتب بنفس اللغة الركيكة التي يكتب فيها لغيرها ممن يسيرون على نفس الخطى ، ويرتكب ذات الأخطاء.
تلك النصوص السطحية دون عمق، من أول سطرين، تدرك بصمة الخوارزميات وهي تصرخ: (كاد المريب يقول خذوني).
الفضول دفعني لتتبّع حسابها الشخصي، فوجدت أن نشاطها قبل أقل من عام، ولأكثر من عشرة أعوام سبقتها، لم يتجاوز مشاركة صور مشهورة، واقتباسات عامة، أدعية، عواجل سياسية، وأحيانًا نُتفاً من الحكم المتداولة.
وبشيء من الجهد، وقعت على منشورات قديمة كتبتها بيدها، بلغة توصف بالكارثية.
ما أكد شكوكي تعليقاتها المتكررة، التي كشفت عن علاقة هشة جدّاً باللغة، لا تتجاوز مستوى الصف الرابع الابتدائي في أحسن الأحوال. ومع ذلك، ربما من فتح لها الباب ، انخدعوا، أو لم ينتبهوا. ثم ما لبثت أن بدأت تُعرّف عن نفسها بـ”الكاتبة”، متجاوزة تاريخها من لإنتاج الإبداعي المتمثل، بمنشورات منقولة من هنا وهناك. هنا تتضح الهوة بين كاتب يحاول أن يطور من نفسه وآخر يتبع طريق الفهلوة ويقع صيداً سهلاً ، في أعين القراء.
وهذا أمر يتكرر مع كل من أحب أن يتظاهر بأنه مبدعاً، متجاهلاً، أن للفن وزناً، وسيرورة، وحياة حافلة بالبحث عن المعارف والإطلاع على من سبقه، وأن الذكاء الاصطناعي مهما تفوّق، لا يستطيع أن يمنح أحداً موهبة لا يمتلكها . ولم يحسب أحدهم حساباً ليوم يصعد فيه على منبر، أو يظهر على شاشة يراقبها الملايين، و عندها يسقط مع أول مواجهة حقيقية.
هذه النماذج باتت تمثل فقاقيع متناثرة وتزداد انتشاراً على سطح السوشيال ميديا، وربما قريباً تظهر في لقاء متلفز كما حدث مع مها الصغير.
في نهاية المطاف، الزيف لن يصمد أمام الأصالة، مهما تطورت الأدوات، والخوارزمية تمنح وهماً لأشخاص لم يمروا بتجارب إبداعية، دون معرفة بأن الفن يتخلّق من موهبة داخلهم وليس من أداة خارجية.
الذكاء الاصطناعي، بكل ما يملكه من قدرة، لا يُزيّف الموهبة، بل يكشف حدودها. والبرامج التلفزيونية المسلية، بقدر ما تمنحه من أضواء لامعة ، ولكنها في النهاية كاشفة.
نحن نعيش زمناً يُتيح تمرير الادّعاء، لوقت قصير، وهو نفسه أداة تفضح تزييف الأصالة بسبب سرعة التقنية، الحاملة لدقة الانكشاف بأسرع مما يتخيله العقل. وأخيراً – ربما نحتاج إلى وقت لتمييز الغثّ من السمين وسط هذا الضجيج الرقمي. لكننا نملك اليوم ما يكفي من أدوات وفطنة، لنُميّز بين ما يُكتب من الداخل… وما يُنسخ من فراغ.