ومرت الأيام ولم أقصد ذلك! فكان الهوى الطفولي. في عمر الخامسة عشر. طلبت رفيقتي الذهاب معها إلى رحلةً، كانت قد نظمتها هي وأخوها الضرير.
تقدم غسان من آجيا وسألها: لدي أخوين ماجد ويعقوب، أيهما تريدين أن يصبح زوجك؟ وقفت آجيا أمامه لترد: يعقوب!
حسناً أحسبت الإختيار لأنني ليس لدي أخ اسمه ماجد!
هكذا كانت معظم الطرق في الأمس وذلك الزمن، بريئة وبسيطة، ليلتحم شخص مع الآخر ليبدؤوا مسارهم الجديد لتكوين عائلة بسيطة.
اجتمعت عائلة يعقوب متوجهين إلى قرية آجيا لزيارة عائلتها، لطلب يد ابنة المختار، ومع وصولهم إلى عتبة المنزل، وكان المختار على علم بذلك، ليطلب من زوجته أن تقدم لهم ما لذ وطاب، مرحباً بهم. دخلوا الدار وجلسوا بالديوان، وبعد برهة من الزمن وقفَ كبيرُ الحاضرين من عائلة العريس، ليطلب يد الابنة للزواج بيعقوب، طبعاً لم يرفض الوالد، بل أعطاهم بركته. وما أن انتهت الزيارة حتى غادر الجميع، بمن فيهم يعقوب العريس.
ومرت الأيام ولم أقصد ذلك!
ليذهب المختار الوالد، إلى منطقة الشاب الساحلية، يسأل عنه إذا كان لديه مؤهلات ليتزوج ابنته. وخوفاً عليها! استمر البحث عنه طويلاً إلى أن وجد شخصاً في القرية ليسأله عن ذلك الزوج المستقبلي، ولكن بطريقته الفريدة. “معن” يوجد شخص يريد أن يشتري بقرة مني، فكنت أبحث عنه لأتأكد من امكانياته لذلك؟ واسمه يعقوب، فهل تعرف أحد من القرية بهذا الاسم والمواصفات؟
ليجيبهُ معن: سيدي إذا كنت تقصد يعقوب أخو غسان! فأنت تتكلم عن أكثر الأشخاص ظلماً والأكثر طَموحاً، والأقل حظاً ولكن التعثر دائماً يصادفه، ولكنه لم يَنكَسِر مهما عصفت رياح الغدر به. مع صِغَرِ سنّهِ. وهو الآن في الثامنة عشر من عمره، فكيف يملك ثمن هذه البقرة يا ترى؟ ليتابع مَعَن في اللهجة العامية “هل الشب مننلو معتر يا دلو- ومعاشه كله ما بيجي هدية! بعد أن عرف مَعَن مغزى السؤال، وهو عن عريس لابنته. التفت المختار بشاره اليه، وشكره على ما قدم له من معلومات.
عائداً إلى ضيعته على سرجِ دابة. وصل بعد طول عناءٍ ومشقّة الطريق من الساحل. نادى لابنته المفترض أن تكون عروس. وسألها: هل تودين يعقوب زوجاً لك؟
أجابته آجيا: نعم أريده وأحبه لنؤسس عائلة معاً، ومهما كانت الظروف الآن ولكنها ستتحسن مع الأيام.
نظر المختار إلى زوجته وأومئ برأسه بالإيجاب على ما طلبت ابنته آجىا. كما تريدين يا ابنتي، فليبارككم الله.
فرحت آجيا على ما قاله الوالد، ولكنها لم تعلم كم بكى من شدة الحزن عليها، وكانت المرة الأولى التي يشاهدون المختار يَدّمَع بهذا الشكل، وهذا الحزن.
وفي ليلة لم تكن بالحسبان جَلَستُ مع آجيا! وشرحت لي كيف وما كانت الضيعة عليه، قائلةً: في سن السبع سنوات وصلت الكهرباء إلى الضيعة. ولم يكن موجود أي دكان في القرية، كما وأنه لا يوجد مال في ذلك الوقت. متابعةً:
أنه في يوم من الأيام جاء رجل ثري من القرية المجاورة ليطلب من والدي المختار، أن يصنع حذاء لزوجته مقابل أن يقدم له أرضاً ثمن الحذاء، كونَ والدها كان في وقتها صانع أحذية مُلِمّ في مهنته ولديه الخبرة بذلك.
وكانوا يجلسون في الليل جنب المدفأة (الوجاق) ليسهر الجميع، ويستخدموا هذا الوجاق بعدة أشكال ومنها: يضعون الزبيب عليه ليصبح شكله على شكل دائري، أي طابة، فنصف جهة منها تقريبا تحترق، والجهة الأخرى تبقى كما هي لونها.
ويضعون الحمص الحب في المياه لفترة، ومن ثم يغلي في هذه المياه. ليضعوهن على الوجاق نفسه ليبدؤوا بتناوله عند الاستواء.
والملفت بالقصة من آجيا، موضوع اليأسمة! في الشتاء وأيام تساقط الثلج، وليس أول تساقط له بل الثاني أو الثالث، “في تلك الأيام إنما اليوم تغير الطقس ولم يعد يتساقط الثلج بنفس الكمية” يجمعون كمية صغيرة طازجة منه، ليُخلَط مع الحامض والسكر، والخلطة الثانية كانت مع الثلج، دبس عنبي.
وبينما هي تروي لي تفاصيل عن تلك الحقبة، قالت شيء لأول مرة أسمعه! “نسطح زبيب” بالحقيقة التفت إليها وسألتها باستغراب عن هذا المصطلح الغريب بزمننا هذا.
ابتسمت شارحةً وهي تقول: نضع العنب على التراب بعد تنظيفه وتبسيط سطح الأرض، الذي سوف يستعملونها، ثم يُرَش بالصفوة! وبعد أن ظهر على وجهي علامات استفهام، لتقول لي ما هي الصفوة: فهي “مياه تخلط مع الزيت” وبعد فترة قصيرة، يُرَش العنب الموضوع على التراب، بنبتة /شجرة صغيرة/ “طيون”. كأداة للرش.
ومن ضمن ما أسهمت بشرحه عما كانوا يفعلون في القرية موضوع “المورج”. يحضر البيدر وهو مكان دائري يعلو على طرف الأرض، بأحجار ثقيلة، ويكون في وسطه عامود كبير من الخشب، ليضع بداخل الدائرة “البيدر” القمح، ومن ثم يُضَع المورج، والذي هو لوح من الخشب فوق القمح مثبت برقبة الثور، ليبدأ الثور بالدوران حول البيدر، والفتيات يَجلِسنَ على هذا المورج، ليصبح ثقيل الوزن، لتحصل عملية قشط القمح. وهي فرز حبة القمح عن القشرة.
لتعود وتخبرني آه نسيتُ أن أخبرك عن موضوع العرس!
عند الظهر ذلك النهار وصل يعقوب إلى القرية لنلتقي، وقبل أن يتفوه بكلمة، قال لي: سوف تذهبين معي خطيفة الآن. (من دون معرفة والديها ومن دون تحضير للعرس).
أجابته: لا لن أستطع أن أنفذ ما تطلب، بل يجب أن نحضر للعرس مع الأهل والأقارب في القرية.
رد يعقوب: الآن سوف نذهب لأن الوضع المادي لا يسمح، لي بتنفيذ كلفة العرس، فهذه الطريقة الأحسن. فنحن نحب بعضنا البعض، وأنا أنتظر هذه اللحظة، لتكّتمل سعادتي بقربك.
لم أستطع التغلب على مشاعري، فجاريته بطلبه وذهبنا إلى قريته الساحلية، ومن بعدها إلى الكاهن ليصلي بعد أن طلبنا منه مباركة زواجنا.
مرت الأيام ولم أقصد ذلك!
لنقرر أنه يجب علينا زيارة عائلتي للصلح مع أهلي، وهكذا تم، جَمَع معن “ابو دعاس” وجهاء القرية الموجودين، وأنا وزوجي حبيبي يعقوب، متوجهين إلى الضيعة، لزيارة عائلتي للصلح.
وَطأتُ عتبة منزل أبي منحنيةً أمامه، وقبلت يده، وعانقته بشدة، وحنان وشوق. لم يتمالك نفسه فغمرني بدوره، بكيت وكأنني طفلة، وكنت طفلة!
مرت الأيام ولم أقصد ذلك!
إلى أن رُزِقتُ بثلاث فتيات، وثلاث صبيان، من أب عطوف ومحب. ولكن الحظ لم يحالفه يوماً، مقارنةً لسعيه في مشقات الحياة! ومع هذا كَبُرَ الأولاد، رغم الضيق وصعوبات الحياة، والعمل، والمال، وعدم القدرة على التنقل بسبب الحرب الأهلية التي عصفت ببلادي الحبيبة لمدة طويلة.