اخلاص فرنسيس
كلمتي في ندوة منتدى خطاب الثقافية الثلاثاء ١٤ حزيران ٢٠٢٢
كان يجب عليّ أن أطلق النار على الحرب قبل أن تطلق نارها عليّ، كان يجب أن أفرغ رصاصي في قلبها قبل أن تفرغني ممّن أحبّ، كان يجب أن أطلق حكم الإعدام عليها، وأجلس عند رأسها للتأكّد من أنّها ماتت، لكن الجنازة اختلفت، وركض جماهير المعزين نحوي، وسرقت منّي ومن أبناء جيلي الكثير، الحبيب، الصديق، الوطن، كان لا بدّ من التغلّب عليها، كان يجب أن أنتفض ولا أسمح لها بدفني حيّة، فكانت الكلمة الملاذ وطريق النجاة، غادرت الوطن لكنّه لم يغادرني، غرّبني الوجع، نفذ إلى شعاب الصدر والروح، ومن منا في الوطن العربي لم يكابد هذا الوجع من قريب أو بعيد، هذا الوجع اللبناني نقلني إلى معايير أخرى، لأخرج ممّا حولي إلى عالم ملموس من نوع آخر وروح أخرى
اللمس لغة خيالية لا حدود لها ، تتصل بأعماق المخّ مباشرة خصوصاً في تصنيف الوتريات في الموسيقا، لذلك هناك عازف موهوب وآخر لا، والكاتب عازف على آلة الحبر ووتر الحرف
كانت هذه النقلة النوعية إلى العالم الملموس بأنامل خيالية إبداعية أقرب إلى الحقيقة من الحقيقة ذاتها، عرفتني ذاتي، وأخرجتني من موات محتّم، وليس هذا فقط بل كان انطلاقة بروح جديدة، روح تحمل مسؤولية الذات الآخر، الخروج به ومعه إلى النور، انفتاح جديد على الحياة بفرح ونشاط بقلب الجماعة في المفرد، من نحن سوى عوسجٍ برّي، في حاجة إلى نبع نروى منه، ماء عذب يشفي مرارتنا، وهل هناك غير نبع الحرف الحرّ المترع بالحبّ والعشق والجمال، وهل هناك من ارتقاء ورفعة أكثر من اكتشاف الذات والآخر من خلال الحرف، الكتابة الأولى تحمل طعم القبلة الأولى، وتحمل رائحة الأرض بعد المطر الأول، توجيه المواهب نحو الجمال بدل البنادق، نحو الحبّ لمسح الكراهية واستدعاء الروح، لتأخذ مكانها الصحيح أي استدعاء الحياة بدل الموات، ما من سبب للوجع يعطي دلالة أخرى ورؤيا أبعد وأعمق من إيديولوجية الموت، الحياة في حركة دائمة من وقف في وجهها سحقته، ومن قدّر قيمتها وجماليتها وهبته ما هو وراء المنظور والمرئي، الحياة لوحة تشكيلية نرتبط بها ارتباط الكحل بالعين، تأخذ منّا وجعنا، تعيد صياغته، وتخلعه علينا كلّ بحسب اختياره ورؤيته، أداري دمعتي وأنا أشارك مشهدًا من حياتي ما بين عمر ال ١١ وال١٨. هذه الفترة التي سُرقت منّي، ليست الحرب وحدها المذنبة، بل من استعان بالدمار والموت على أخيه الإنسان أقفر الأرض بالغياب، تسلّق البرد جدران منازلنا، الآن وكلما ابتعدت عن تلك الفترة التفّ حولي الماضي يلفعني بصوت أمّي وهي تلملم شتات أطفالها بصدرها، خرجت أحمل حقيبتي في يدي، وقد عبّرت عنها في رواية (رغبات مهشّمة) هذه الحقيبة التي أخذت أكثر من صفحتين لتحضيرها في طريق العودة لزيارة الوطن بعد غياب طويل، ما هي إلّا حيرة أرقت القلب، وأشعلت الروح، فهذه هي الحقيبة ذاتها التي خرجت أحمل فيها وجوه من أحببتهم، أهلي، أبناء قريتي، أصدقائي، أحبّائي وطفولتي المسروقة التي أبيت أن أتركها خلفي لئلّا أنسى، وهل يمكن أن أنسى من أنا؟ لقد تحولت إلى حياة أخرى أنساب بين السطور، أعتمد ملامسة الوجوه والحروف والأجساد والأوجاع لتروي لي من أنا؟ أقول الآن وقد فاق الوجع حدّه، وتراكم في ثنايا الروح، فكلّ يوم يمرّ يكاد لا يخلو من كارثة تحلّ بالوطن، آه.. أيها الوطن، آخرها تفجير المرفأ كان أكبر من أن يُحتمل، من يقرأ تاريخ بيروت الدامي يرَ ذلك الوتر العازف، وتر الألم لا وتر القلم، ويبقى السؤال: ماذا لو لم تكن الحرب قائمة؟
غفر لك خطاياك أيتها الحرب
أنا الآن في وطن أكبر
وطني هم أصحاب القلب، هم الإنسان والإنسانية
هم من يريدون تسجيل الحياة أولًا، ثمّة أشياء نريد أن نقولها، ولا نستطيع إلى ذلك سبيلًا سوى القلمِ، ولا نرتاح إلّا بعد أن نقولها ليبدأ همّ جديد في فكرة جديدة تؤرّق القلب والروح، في الكتابة نشهد أنّنا أحياء حين نكتب الشعر، نشهد أنّنا جزء من الحبّ والعشق، الموت والولادة، في فعل الكتابة نسلخ عنّا كلّ ما يربطنا من أقنعة وسلاسل، ونسير نحو التعبير الأسمى، نتجاوز المجهول والتهميش، ونسعى نحو الاستمرارية، فالحرف هو الخالد لا الإنسان، كلّ من مرّ قبلنا عرفناهم من خلال ما كتب عنهم، أو من خلال ما كتبوا، على الرغم من هذه العملية المعقّدة التي هي الكتابة إلّا أّنها تحرّك وعينا، نتفاعل مع اللاوعي، تربطنا به وبالعقل الباطن، نستعيد هويّتنا، ننسجها على المنوال الذي نرغب فيه، وبكلّ بساطة نحيا
عندما يقسو عليك الوطن
أطلق رصاصة الحب، وحده الحب يطفىء لظى الحرب، وحده الحب يشفى