قرأت بضعة مراجعات عن الرواية ، و لكنني أشعر بعد قراءة الرواية بضرورة النصيحة إلى الكتاب و القراء و النقاد الذين لا يحبون السياسة أو يخافون من تبعاتها أو لا يعرفون عن السياسة أن يكفونا شرهم ، و شر البلية ما يضحك !
أهم ما شدني إلى جانب فحوى الرواية هو الاضافة التي كتبها الدكتور محمد المخزنجي التي تحكي علاقة حاملي درجة الدكتوراة في الطب المخزنجي و يحي من جامعة كييف إبان العهد السوفييتي ، هذه أولًا ، أما الثانية هو الشكر الذي ذيله الدكتور يحي لمن ائتمنهم على قراءة و مراجعة النص ، و هي مزية كبرى في كتابة النصوص سواء الادبية أو العلمية لمزيد من التدقيق و للتأكيد على الطبيعة التضافرية Collaborative ، للكتابة الجيدة أو الممتازة ضروراتها المهنية من المراجعة و الاستزادة و التدقيق.
نحن بصدد رواية أصوات يرويها خمسة شخوص شكلت تاريخ بدرجات متفاوتة، الرواية من ٣٤-٣٧ ألف كلمة، و مقاطعها السردية بلسان أبطال قصة لها بؤرتان، البؤرة الاولى واقعة محاولة اغتيال سعد زغلول باشا ، و بؤرة ثانية تجمع عبد الحميد الطوبجي و عبد اللطيف الدِلبشاني (الاخير صاحب محاولة الاغتيال) مع الدكاترة يحي و المخزنجي و تلك البؤرة هي مدينة المنصورة بشوارعها و تركيبتها السكانية و صورتها الحضرية في زمن الرواية من حوالي مآئة عام.
الشخوص الراوية هي عبد الحميد الطوبجي خريج جامعة ألمانية من برلين و مالك أطيان و متعاطف اشتراكي/شيوعي ، ثم عبد اللطيف الدِلبشاني الشاب الذي درس أيضا في برلين و عضو الحزب الوطني ( مصطفى كامل و محمد فريد و غيرهم ) ، ثم انجرام بكِ وكيل حكمدار الشرطة المصرية ، ثم حسن نشأت باشا رئيس ديوان الملك فؤاد و حائك مؤامراته و الوزير و السفير ، و خامسهم الأخير سعد زغلول باشا.
لتلطيف الأجواء الدرامية الشديدة و الاضطرابات السياسية ما بين القاهرة و الاسكندرية و استنبول و برلين و لندن ، استقدم الروائي مع الكثير من الخيال ، أولجا الالمانية الشيوعية من طبقة كادحة ، فرانشيسكا الايطالية الصقلية عاملة جروبي و عشيقة انجرام بك ، و أخيراً ماريكا اليونانية قاطنة المنصورة و حبيبة الطوبجي . استمتعت باستقدام مسرح المنصورة إلى السردية و كوبري طلخا و شارع السكة الجديدة و شارع البحر و شاطئ النيل لانني ساقتني الأقدار إلى المنصورة مهاجرا سنة ١٩٦٧ ، ثم مؤخرا عاشقا و زوجا لمنصورية.
الأحداث التي بثتها أصوات الرواة هي مناخ المؤامرات التي تحاك بين الخديوي عباس حلمي الثاني الذي عزلته بريطانيا إبان بداية الحرب العالمية الأولى ، و أجلست مكانه السلطان حسين كامل حتى وفاته ، ثم جئ بالسلطان فؤاد الذي أول ملكًا لمصر المستقلة عن العثمانيين أو البريطانيين ولو شكليا و كلاميا. المصريون كانوا و لا زالوا موزعين و مشوشين بين الولاء للخليفة أيًا كان و أينما كان ، الوطنيون تتنازعهم علاقاتهم بالسلطة سواء الفائتة أو الراهنة أو الطامعة في الجلوس مستقبلا ، البريطانيون الذين يخدمون تاجين ، تاج يدفع رواتبهم و تاج آخر يهيمن على عالمهم بدافع الانتماء أو الولاء للمثل. المصريون المختلفون حول معاني الوطنية و المشتتون بين الافكار الجديدة الاشتراكية و القديمة الدينية الملبوسة بوطنية ما، الحزب الوطني بتنظيماته السرية و تاثيراته السياسية و الثقافية على أجيال تسللت إلى هيكل الثقافة المصرية حتى بعد زوال الحزب المؤسس لزمرة عرابي و منهم الشيخ محمد عبده و سعد زغلول نفسه. الافكار الاشتراكية أو الشيوعية التي أتت من الاتصال بالغرب بطريق التعلم في برلين أو فيينا أو باريس أو حتى لندن أو من الاجانب المقيميين في مصر من الطليان أو اليونانيين أو غيرهم ، و تعرضت الرواية من الداخل لشكل و تحولات التنظيمات الاشتراكية و العمالية في فترة ما بعد الحرب العالمية الاولى و انتصار البلاشفة ، حملات الاضطهاد و التضييق على الشيوعيين سواء بالسجن أو حل الاحزاب أو مصادرة الممتلكات أو النفي و الترحيل من مصر كما حصل لروزنتال و باسيور ( الاول أوروبي و الثاني شامي ) . بالتوازي مع الصراع العالمي بين النظام الغربي القديم و السوفييتي الجديد ، استحالت قصص التآلف أو التزاوج بين انجرام و فرانشيسكا ، أو بين الطوبجي و ماريكا.
تأويلي أنا للرواية هي شرح كيف تحاك قصص الاغتيال و السجن الاحتياطي و الاحالة لسرايا المجاذيب للمتهمين بالاغتيال، و كيف تعرف أجهزة الأمن السرية بتدبير محاولات الاغتيال و تحبطها أحيانا أو تدعها “تمر” ، كيف يتم تخريب القضايا في المحاكم ، أو تركيب قضايا سياسية على ظهر إحداث جنائية لتسوية حسابات مع خصوم سياسيين آخرين بطريقة انتهازية خالية تماما من حسابات العدالة أو الأخلاق. الصعوبة في الاستيعاب تأتي بمضاهات صوتي سعد زغلول نفسه مع حسن نشأت ، الاول ضالع في استيعاب منظمات سرية اغتالت مصريين و أجانب و حاكمتهم سريا دون اعتراف من سعد زغلول حتى مماته ، رغم اعترافه الشهير بإدمان القمار و بيع أطيان زوجته. حسن نشأت رسم خريطة ( اسقاطها على الراهن مذهل ) كيف يتم التسلل بالمرشدين ( استعمل لفظ جواسيس) على المنافسين السياسيين أو دوائر الحزب الوطني المتشيع للخديوي عباس حلمي الثاني في عواصم أوروبا ، و نجاح حسن نشأت في استقطاب أجنحة داخل الحزب الوطني ، بل و داخل حزب الوفد نفسه ، باستمالة الطامحين و الطامعين بالوظائف و بالاموال ، في جملة اعتراضية لم يفلح نشأت باشا في استمالة الطلاب المصريين في الخارج باستعمال النساء لأنهم غارقين مع نساء أوروبا . الرواية شردت لمحمد فريد الذي أنجب من ارستقراطية فرنسية دون زواج ، ثم كان على علاقة بأخرى نمساوية. الدِلبشاني قفز إلى سرير أولجا الألمانية عشيقة الطوبجي فور عودة الأخير للمنصورة ، تلك القصة تملؤني بالكوميديا التي تشكلها سلوكياتنا نحن الشرقيون الاخلاقيون في الغرب متى رفع عنا سلطة المجتمع المانع .
في قضية محاولة اغتيال سعد زغلول باشا اخفى انجرام بك البريطاني مسدس ( أداة الجريمة) بالتعاون مع ضباط المباحث البريطانيين و باءت كل محاولات النيابة بالفشل في ربطه بالاختفاء ، صاحب فكرة الاغتيال المتهوس تم اهدائه المسدس بواسطة عميل لحسن نشأت ( أيضا وطني متشدد و متهوس) ثم أشار عليه محاميه بادعاء الجنون فيحال إلى العباسية أو الخانكة حتى تبرد القضية و لكن الحبسة داخل سرايا المجانين تقوده للموت، كما قتل التيفود انجرام في سنوات قليلة بعد حادثة الاغتيال. جرائم اغتيال سياسية كبرى في تاريخنا نسبت إلى أعمدة تلغراف أو فاعل خير بإبر ضرب النار ثم غرق الجناة الظاهرين أو المخفيين بين النسيان أو الطمس المقصود.
ايمان يحي كاتب معجون بالسياسة و تاريخ الحركات السياسية اليسارية في مصر ، سواء العلانية أو السرية ، و لا يمكن لكاتب أن يجاريه في كتابة تاريخ سقطاتنا السياسية الكبرى، و لهذا السبب كتبت النصيحة في أول المراجعة، لا تقتربوا من النكسة و الاعتقالات و قضايا الاغتيال دون عمق التجربة السياسية أو الخبرة بالعالم الواقعي !
تقاطعات كثيرة في الرواية مع ما ترسخ في قرارة نفسي عن عبثية الاغتيال السياسي أيًا كانت دوافعه و جذور المشكلة السياسية بالاغتيال أو التصفية التي دفعنا ثمنها ثقيلا و عزيزا في مسيرة مصر منذ اغتيال بطرس غالي باشا . قراءة الرواية متعة ضرورية لمن كان يعشق الغوص في جذر ثقافتنا السياسية.