نهى عاصم
قراءة في رواية سيدات الحواس الخمس للروائي جلال برجس بقلم نهى عاصم
غلاف هادئ اللون يظهر فيه خمس من النساء غير واضحات الملامح يرتدين العباءات وعلى كل عباءة صورة تشبه خريطة ما فنتساءل عن العنوان الغامض والصورة، فلكل منا حواسه الخمس فلماذا وضع الكاتب خمس سيدات؟! من الخلف مسافر يهجر مدينته عمان وأمه الأرملة الوحيدة ويتساءل قائلًا
“ما نفع حواسنا الخمس إن لم تكن لها القدرة على التنبؤ بما يمكن أن يحدث لنا؟”
الإهداء مثل إهداءات عدة أدباء وأديبات لأسرهم التي تتحمل حالاتهم أثناء كتابة عمل ما
مشهد سريع بعنوان: “إطلالة داخلية” عن وداد مديرة منزل سراج عز الدين غريب الأفعال، وآخر: “خبر صحفي” عن أخبار سفاح عُمان
ثم مقولة كالومضة تبرق في الأذهان عن الحواس لأفلاطون
تبدأ روايتنا عام ٢٠١٤ في عُمان على استيقاظ سراج الدين متذكرًا كابوس يهدده في صحوه ونومه ولكنه أبعده عن مخيلته وبدأ في إجراء بضعة اختبارات لنفسه لحواسه وانتهى قائلًا بعد كل اختبار
“إذن ما زلت أرى”، “إذن ما زلت تحس يا سراج”، “ما زلت أسمع يا بيتهوفن”، “ما زالت أشم جيدًا”، وأخيرًا: ” إذن ما زلت أتذوق”، ثم قرأ صفحة الحوادث بالجرائد
يالها من شخصية غريبة تثير الفضول
يعود سراج فلاش باك لعام ٢٠٠١ في ولاية ويسكونسكن الأمريكية حيث غادر عُمان بسبب ما حدث له ولكنه لا يخبرنا سوى بأحداث برجي التجارة العالميين، وكأنه نقطة فاصلة في حياته كما في العالم كله
امتد هوس سراج بحواسه حتى أنه يذهب خمس مرات سنويًا لإجراء الفحص الطبي عليهم، حتى الجاليري الذي أقامه كان غريب الشكل ويدعى “الحواس الخمس” وكان مبنى غامض يثير غضب البعض وتساؤلات البعض، وهو على هيئة امرأة من خمس طوابق، تفرد كل طابق بإحدى الحواس بصورة رائعة مبهرة
كما كان يتمنى أن يصرخ في الناس
❞ (الحواسّ جبهتنا الأولى والأخيرة للنّجاة منْ كلّ هذا الخراب، إنّها الضّوء الذي طالما ألقيناه في حقل مظلم يمتدّ على طرف الطّريق التي مشينا فيها من دون ضوء)· ❝
يخرج سراج من عزلته للمرة الأولى إلى معرض فني يقيمه في الجاليري ويبدأ في مواجهة الحياة والبشر
فهل ستستطيع النساء إخراجه من دوامته التي يقع فيها أحيانًا، أم هو الطفل أحمد؟! وماذا يحدث في غرف القصر الست المغلقة؟
وهكذا تمضي بنا الرواية تبهرنا بحكايات تنم على واسع اطلاع الكاتب على النواحي النفسية لأبطاله وكذلك واسع دراساته وقراءاته في عدة مجالات
ينعي الكاتب مثله مثل العديد من الأدباء مدينته الجميلة التي تغيرت كثيرًا وصارت
❞ انظري كيف أخذت عمّان للتوّ تتحوّل إلى مدينة عموديّة، تصعد في سمائها الأبراج والبنايات الشّاهقة والمتاجر ذات الطّوابق العديدة· هذا فحش هندسيّ، جعلنا نفتقد لعمّان كمدينة أفقية تتشابه فيها البيوت، ولا يلحظ أحدٌ أنّ فيها فوارق طبقيّة· ❝
❞ ففي المدن لا تموت الأحلام فقط بسبب أدخنة العربات والمصانع وتعالي وتيرة الضّجيج، بل تموت أيضًا حينما تختطفها أياد خفيّة حتّى في وضح النّهار، وتعيدها جثثًا هامدة· ❝
بالرواية اسقاطات خفية عن عجز البطل الجنسي، بسبب ذكريات وخيالات، وهو هنا يسقطه على الوطن والناس، كما بها إحساس عال بالمرأة يخلطه بالوطن
❞(حواء وطن كبير)❝
❞ حوّاء وطن، والوطن قلب حوّاء الدّافئ، فلا تسرقوا شموسه· ❝
❞ وحينما سألتني المعلّمة عن معنى ما رسمت، قلت لها إنّي أرسم وطنًا يعيش فيه النّاس سعداء· ❝
والوطن عن جلال برجس ليس فقط عُمان والأردن بل وفلسطين وكل عالمنا العربي
ينهي الكاتب بعض مشاهده نهايات مفتوحة بذكاء شديد ويبدأ مشهد آخر بعيد عما سبقه فيجعلنا نتشوق للقراءة لمعرفة نهاية هذا وذاك المشهد
يتنقل الكاتب بالأزمنة برشاقة قلم متمكن من أدواته، فلا يشعر القارئ سوى ببغتة ثم ينساق معه قراءة بهارموني ناعم
لغة الكاتب بسيطة مليئة بالتعبيرات الشاعرية الجميلة ولم لا وهو الشاعر قبل أن يكون الروائي واحترت كثيرًا في اختيار بضعة فقرات حتى مال قلبي ل
❞ له طريقته الخاصّة في قراءة اللّوحة، إذْ يرى ذاته كما لو أنَّها قطرة من لون تبقّى تسبح في فضاء اللّوحة عبر رحلة يسمع فيها دليلاً يخبره أسرارها، إلى أنْ يجد له زاوية أو خـطًّا فيها فيستقر فيه ❝
❞ ثمّة جزء في البصر لا يمكن لأيِّ جهاز طبِّي أنْ يختبره· إنَّه الجزء الذي حينما نرى الأشياء بصورتها الاعتياديَّة يمنحنا شكلها الآخر المتواري وراء حجر الغفلة· كأنْ ترى دمعة تختبئ خلف ابتسامة عريضة، فتصابُ بِحيرة تخلّفها تلك الابتسامة، وهي تعاند دمعة تنفخ في ناي الأسى· ❝
❞ (درِّبوا أنفسكم على الإنصات للسّكون· إنّه سيِّد الحزن، وأمير التَّأمُّل، وملك باحث عن الإجابة· فليس كلُّ صمت هدوءً· وليس كلُّ هدوء صمتًا، فالشَّمعة تقاوم الظُّلمة دونما أيِّ ضجيج، حتى وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة) ❝
❞ يا سيِّدتي، الكلمات الصّادقة كذخائر الجنديِّ وقت الحرب، علينا أنْ لا نطلقها جزافًا؛ كي لا تصبح قلوبنا ذات يوم خالية الوفاض، وخرساء أمام بوابة الحياة· ❝
وحينما يتحدث عن عُمان
❞ إذْ بدت في ساعات الظَّهيرة تلك تكابد أشعَّة الشَّمس وهي تقهقه في كبد السَّماء· ❝
❞ ذات ليلة فردت قماشًا على منصب الرّسم، ووجدتني أختار ألوانًا داكنة وأرسم البنايات كأنّها أشجار محنيّة ذابلة· موجع أنْ تشعر بأياد تسلّل إليك لتعلن فيك الانهيار، ومؤلم أنْ تحسّ بأنّ النّهر الذي كنت تعوّل على جريانه الأبديّ ينقطع مرّة واحدة، لهذا مزقت اللوحة ونمت. ❝
❞ «البكاء بمعيّة الماء، مداراة ليس لشكل الدّموع وهي تسحّ على الوجه، إنّما لتلك التي تهبط من أعالي الروح إلى حفرة في القلب؛ لتزيد بمخزون الفجيعة»· ❝
❞ لكن أتعرفين ما يميّز عمّان عن غيرها؟ إنّها طيور الفرح التي لم تتوقّف أجنحتها يومًا عن الطّيران، حتّى والأدخنة تتصاعد منْ بدنها· هذا ليس فقط في هذه الأيام، إنمّا منذ كلّ تلك الحضارات التي تعاقبت عليها، لكنّ التّاريخ لا يُذكر ❝
وفي النهاية التي أسعدتني ثم أحزنتني، أتمنى لو وجد جاليري الحواس الخمس في كل مدينة من مدننا العربية.. شكرًا جلال برجس على هذه الرواية التي جعلتني أحلم معك
غرفة 19
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم
- سلطة الدجاج بالعسل والخردل
- فلسفة القوة عند نيتشه