ليست يوميّات ولا ذكريات، كما إنّها ليست رواية، بل هي صفحاتٌ مليئةٌ بالأصالة. اقترف الكاتب إسكندر نجّار الكتابة في سحر الحضور. كلّ كاتبٍ يقترف الكتابة في سحر الحضور إذا كان في روحه نفحة الطيبة والمحبّة التي ورثها في جيناته ورافقته من الرحم إلى اللحد. العذوبة الأنثويّة انبثقت من فجر عينَي والدته. تصفو روح القارىء عندما يقرأ كتاب “ميموزا” الصادر عن دار سائر المشرق، والذي يتضمّن أنفاس الأمّ، الدافئة الطاهرة، فوق صقيع الأعمار.
خمسةٌ وعشرون فصلًا اشتعل فيها شغف العِلم ليطهّر الأولاد من نزواتٍ متأجّجة. سقتهم الوالدة من نهر وعيها الذي تخطّى مكنونات الوجوه. بكلّ دقّةٍ وأمانةٍ نقل الأستاذان بيتر سلمون وسامي معروف نصوص الكتاب من الفرنسيّة إلى العربية، ابتداءً من أول فصلٍ (الجذور). فقد ورد في هذا الفصل أصل ميموزا الراقي المتحدّر من عائلةٍ مثقّفةٍ طليعيّةٍ تختزن في يوميّاتها عبق الماضي الجميل. والدها الدكتور الياس كان يقدّم معاينات مجّانيّة كلّ يوم خميسٍ من الأسبوع “إذ كانت مهنة الطبِّ آنذاك كهنوتًا.” والدتها “كلير” مثقّفة ثرية مؤمنة. وتتتابع الفصول بسردٍ بسيطٍ جميلٍ مشوقٍ.
اِنتقال ميموزا مع أهلها من منزلٍ إلى آخر، نهلها للعلم والمعرفة من مدرسة الفرنسيسكان الصارمة، نجاحها في امتحان الدخول إلى كلّية الطبّ الفرنسيّة في بيروت، دراستها علم الصّيدلة بدل الطبّ نزولًا عند رغبة والدها، وصولها متأخّرة إلى الجامعة، وملاحظة لاذعة بسب عطل تقني في التراموي، تمرّدها على المجمتع الذكوري وحصولها على وظيفةٍ، إذ أصبحت بطلة الكتاب مدرِّسة في مدرسة سيّدة المعونة الدائمة، زواجها من محامٍ لامعٍ… وصولًا إلى ولادة الكاتب إسكندر نجَّار، تربيتها الصالحة لستّة أولاد بطريقة تقنية عالية مدموجة بعاطفة أمومة فاضت حواسها بشغفها بالتعليم والتنظيم والمحبّة، التناغم في حياتها قبل الحرب الأهليّة، فلكلّ دقيقة حاجة لحاجة مختلفة. ابتسامتها باستهزاء للصعاب، وإدارتها للمنزل بلياقة ولباقة وحزمٍ ومودّة.
لكلّ مشكلةٍ حلٍّ في قاموسها، ولكلّ حاجةٍ منزليّةٍ أو ترفيهيّةٍ أو سياحيّةٍ، كزيارة الأماكن المقّدسة حسابٌ في فكرها. لديها حلولٌ لجميع المشاكل، من دون محسوبيّة على الإطلاق. فلكلّ ولدٍ مكانة خاصة في قلبها. كانت تتحمّل حماقاتهم بمحبّة، وتُصالحهم بإصرارٍ وحزمٍ في كلّ مرّةٍ يختلفون: “يلّا بوسو بعضكُن”.
كان ظهور الرعب في عينَيها كلّ مرّةٍ يدقّ ناقوس الخطر بسبب حادثٍ صحّيٍ يلِّم بالأولاد. كانت صيدليّة متنقّلة، تستشير عشرات الكتب حول علم الأعشاب لمداواة فلذات كبدها، “إذ كنت تريدين مداواة المغص بواسطة الزيزفون، والالتهابات الحلقية بواسطة القصعين، وحَبّ الشباب بواسطة الخطمي، والعطسة بواسطة إكليل الجبل، والقروح الفمويّة من خلال المردكوش، واحتباس الماء من خلال أعناق الكرز، والثآليل من خلال ورقة الخس أو الثوم…”
ويكمل السرد الجميل عبر السطور، محبّتها للمشي مع أصدقاءٍ من عائلاتٍ مختلفة، ومع أسرتها، في الطبيعة الخلّابة، زيارة الأديرة الضائعة في عمق القرى والكنائس المهدّمة والمدفونة في الغابات، حفظها لجميع “القادوميّات”. الترفيه خلال الحرب الأهليّة التي عصفت بحياتها وحياة عائلتها كالإعصار. توفير الحماية من قبلها لأطفالها الستّة من العنف الدائر في كلّ مكان. الانتقال من المنازل إلى الملاجىء. جرأتها عند إقدامها إخراج أولادها من جحيم المعارك بواسطة سيّارتها البيجو: “إنك تملكين شجاعة الأمَّهات اللّبنانيّات.” حدسها المسبق بمعرفة موعد القصف، وحماية عائلتها من خلال الجلوس في دريئةٍ تحميهم. المغادرة إلى فرنسا وتفوّق توأمَيها الكبار في امتحانات اللغة الفرنسيّة، حياتها المثاليّة مع زوجها وحبّها اللّامتناهي له. تقواها وتراتيلها في أوقات فراغها القلية. حبّها لمراسلة أولادها كتابةً. وخاصةً في الأعياد، فقد لقّبها زوجها “مدام دي سيفينيه”: “أمّا فكرة استبدال هذه الرسائل برسائل إلكترونيّة أو رسائل نصِّية فلم تراودك يومًا ليقينك أنّ الكتابة باليد متعة لا تضاهى!).
لكلّ الحبّ الذي ورد في الكتاب، وكلّ الاهتمام بالعائلة والأصدقاء، والصدقات للمؤسّسات الخيرية، أيقن الكاتب أن أمه، الكائن الوحيد الذي أحبّه كما أحبّت إخوته الخمسة، فكانت أمّاً وصديقة مفضّلة. أصبحت ميموزا جدّةً لعديدٍ من الأحفاد، فتوسّعت المساحة التي تصّب فيها عاطفتها.
الفصل الأخير (المحنة)، وفاة ميموزا وانتقالها إلى المقلب الآخر من الحياة، بعد أن اهتمّت طويلًا بزوجها الذي أصيب بالشلل. وفاءً للحبّ الصادق واللامحدود، قال الكاتب كلمته النهائية: “اليوم، أميَّ لم تَمُت.”
كتاب وصَف أناقة عطايا الرب. فهنالك قلوب جميلة لا يكافىء حبّها إلّا الدعاء. كما ذكَّرنا ببيروت عاصمتنا الجميلة قبل الحرب: أوّل سلّم متحرّك خاص بسوبر ماركت “سبينس”. الكوكودي التي كانت تقدّم للأطفال أحصنة كهربائية، ترامبولين، سيارات تصادميّة، وقوارب بشكل بطّة عملاقة. الكورال بيتش حيث كانت العائلة تستحم. ساحة الشهداء الصاخبة المزيّنة بساعة الزهور ولافتات السينما الكبيرة. جميع الأسواق: “الصاغة، الوقية، الفرنج، الطويلة، أياس وغيرها…” بالإضافة إلى القطار من بيروت إلى البقاع، التراموي وسينما “أمباسّي”.
يلاحظ القارىء الأدب الراقي النابع من الاطّلاع الحثيث على الأدب العالمي. فقد ذُكرت في الكتاب مؤلّفات لأدباءٍ عديدين نذكر منها: روايات فريزون-روش، النسوة صاحبات القبعات الخضراء لجيرمان أكرمان، مؤلّفات ألبير كامو، جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، العجوز والبحر لهامنغواي، المحاكمة لكافكا، الأمل لمالرو، صمت البحر لفركور، المزيّفون لجيد، وخواطر فتاةٍ صغيرة لآنّ فرانك وغيرها من الروايات والأعمال الثقافية والفنّية.
كم أن عائلة ميموزا محظوظة بعشقها للمعرفة، وتأمين الحياة الكريمة الراقية لأفراد اسرتها الذّين غمرتهم بحبّها وهذّبت حواسّهم. رغم رحيلها بقي سحر الحضور مهيمناً، كما لو أنّها أودعته وصية يبثّه الياسمين ضوعاً عند عتبات المنازل التي سكنتها.
يوسف طراد
الخميس 28 تشرين الثاني 2019
Mon liban
مقال من كتاب “قراءات فلّاح” الموجود في مراكز حملة كتاب وقمح