نورهان راشد
مازلنا نتحدث عن اليوم الأول لي في المرحلة الابتدائية، و الاكتشاف الأهم الذي أدركته بمجرد دخولي الفصل، بينما الأطفال يتسارعون للجلوس بالصف الأول، اِتَّخذت مقعدي بالصف الثالث بجانب باب الشرفة، وكان فصلنا يحوي شرفة، لأنَّه المبنى كان قصرًا قبل تحوله لمدرسة، واخترت الجلوس بنهاية المقعد الخشبي، لأكون أقرب للشرفة، وهو موضع غير محبذ لدى الطلاب الذين يفضلون الجلوس بطرف المقعد، ليكونوا أقرب لرؤية المعلم، أو للخروج، أو أي منافسات أخرى تقوم على أساس السرعة، كمسح المحتوى المدون على السبورة، أو توزيع الكراسات، أو غيرها من المهام الأخرى التي يسندها الأساتذة للتلاميذ، أو حتى الكتابة بالطباشير في تلك اللحظات التي يغادر فيها الأساتذة الفصل
لم يكن أي من تلك الأنشطة يستهويني، فقد تصالحت مع رغبتي في الانعزال والغوص داخل أفكاري منذ زمن، في حين لم يتصالح العالم مع تلك الرغبة، ولذا اِتَّهموني بالتَّشتت، وبالمقابل تصالحت أنا مع ذلك، ولم ولن أفكر يومًا بالتغيير، فلا يوجد سبب منطقي يجعلنا نملك شخصيات متماثلة الأحلام والرغبات
بناء على معاييري، كان موقعي هو الأثرى للغوص داخل أفكاري، وبدأت من بعدها في اِستكشاف المباني المواجهة لفصلنا، وكانت أحدها بناية سكنية، تحوي عددًا من الشرفات بأحجام مختلفة، بالإضافة لنوافذ. بدأت بمراقبة حياة الأشخاص فيها
كانت معظم النوافذ تفتح وتغلق فورًا، وكذلك أبواب الشرفات. غالبيتها يتم تنظيفها يوم الخميس، ونستطيع سماع صوت اِرتطام أقمشة التنظيف بالشبابيك الخشبية. في ظل الهدوء السائد بالحصة، كان الطلبة يستقبلون تلك الأصوات بالضحك والسخرية من السكان؛ لكني كنت أراها حياة أخرى أسرح في تفاصيلها، وأحاول تخيل طبيعة الأشخاص الذين يحيونها، و أتلقى الكثير من التأنيب على سرحاني الشبه مستمر من أساتذتي
من بين الشرفات كان هناك واحدة لم تغلق أبدًا، تجلس بها اِمرأة تبدو في عمر الشيخوخة، تخرج للشرفة مع مطلع الحصة الثانية، تستند إلى سورها وتراقب الشارع حتى نهاية الحصة، حين يصيبها الإرهاق تجلس فوق المقعد الخشبي الموضوع بركن الشرفة الأيمن، ومع اِنتهاء الحصة الثالثة تضع وسادة على مسند الشرفة، وتضع رأسها عليه، لتبقى في موضعها حتى مطلع الحصة التاسعة. يتكرر يومها بشكل مماثل كل صباح، أحيانًا كنت أرفض نزول الفسحة، فشيء ما بداخلي أخبرني بأنها يمكن أن تسقط جراء ثقل رأسها إذا راحت بنوم عميق؛ لكن قواعد المدرسة كانت تقتضي بمنع المكوث داخل الفصل بالفسحة
مضت أشهر وأنا أراقبها كل يوم، حتى باتت جزء من يومي لا يكتمل إلا برؤيتها، ومع الوقت تطور بداخلي شعور بالمسؤولية تجاهها، لدرجة أني حرصت على ألا أنبه أحد من زملائي إليها فيتخذون من وحدتها مادة للسخرية. كانت مسؤولية نابعة من شعوري بامتلاكنا فضاءً مشتركًا بالرغم من ثقتي من كونها لا تلاحظنا من الأساس، وربما لا تنتبه لوجود المدرسة، بالرغم من الصخب الذي نحدثه طوال اليوم، والأهم أنَّها بدت دائمًا في اِنتظار حدوث شيء ما، لا أدري لكني حسدت قدرتها على تجاهل كل شيء من حولها، حتى ملل التكرار، والقدرة التي ألهمتني الصبر على تخطي الأيام الدراسية المضجرة
غرفة 19
- الحياة والمحبة والتعلم: ثلاثية متكاملة
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي