بقلم: هالة البدري لموقع المشهد
– لم تعالج الرواية أي شخصية انهزامية وخلت من خائن أو متخاذل أو سارق أو كاذب
– البطل العائد بلا اسم حتى يكون رمزًا لكل العائدين لأن بطاقته فاقدة لهويته الفلسطينية رغم حصوله على جنسية أخرى
– العذابات اليومية التي تنتهك الإنسانية لا تدفع بالموجودين إلى الفرار بل إلى التمسك بالمتبقي في أيديهم
– الراوي يمتلك ناصية الشعر ويدرك أهمية التعبير في حياة الفلسطيني التعبير الذي يثبت الحقائق ويمنع تزييفها
يفرحني اكتشاف كاتب جديد سواء أكان شابًا في بداية انتاجه أو مخضرما لم أقرأ له من قبل وهذا يحدث كثيرًا. متعة المعرفة الأولى تتجاوز الدهشة إلى المحاولات البريئة لفض حواجز الأسرار والتسلل إلى العالم البكر بكل طزاجته. وهو ما يعطي أفضلية دائمة لإنتاج الكاتب الجديد بسبب قلة معلوماتي عنه باستثناء شذرات من أراء لأصدقائي هنا وهناك، على عكس الكاتب المخضرم الذي تسبقه معرفة شبه مؤكدة بما ينتظرني من مفاجآت نادرًا ما تخيب من مقالات النقاد والصحفيين
فإذا كان الكاتب فلسطينيًا زادت مراهنات التوقع بأمنيات الرغبة في إضافة مبدع جديد لقائمة القادرين على التعبير عن قضية حياتنا. وهي مسألة شائكة لأنها تضعني بين انحيازي للقضية وفنية العمل الذي أقرأه وأظنها تضع المبدع الفلسطيني في نفس المأزق إذ يتوقع القارئ منه موضوعات محددة ربما ليس من بينها قصة حب عظيمة أو ضعف انساني عادي بعيد عن القضية ويبقى عليه أن يبتكر ما يضعه في خانة الفن وليس السياسة، فبسببها إن زادت داخل الخلطة يتحول العمل الأدبي إلى منشور
منذ رواية اسحق الحسيني “مذكرات دجاجة” و”سكة الحجاز” لجمال الحسيني في أربعينات القرن الماضي مرورا بأعمال جبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي ويحي يخلف وسحر خليفة وليانة بدر ورشاد أبو شاور وإبراهيم نصر الله ومريد البرغوثي وربعي المدهون والأجيال اللاحقة حسين المناصرة وحسن حميد وهناء عبيد إلى جيل يامن نوباني وغفران قسام وغيرهم من الأقلام الجديدة تميزت الأعمال الأدبية الفلسطينية بالجدل بين الخاص والعام بين الذات والآخر مستدعية الموروث وبخاصة الجانب الشعبي والديني منه بشكل حتمي شكل خصوصيتها مع التركيب المتفرد للشخصية التي تواجه الاحتلال ومحاولات طمس الهوية والتهجير القسري وهو ما أنتج شخصيات داخل النص الفلسطيني تعاني من حالة استلاب نفسي واجتماعي ومكاني بسبب التشرد، وحالة غضب وثورة ترفض قبول الأمر الواقع وكلها أسباب صبغت الأدب الفلسطيني حتى ولو حاول الروائي تقديم عالم آخر مثلما فعل جبرا إبراهيم جبرا في “صراخ في ليل طويل” و”البحث عن وليد مسعود” أو في غيرها من رواياته لابد أن يعود ليطرح القضية في “السفينة” العائدة إلى الوطن
أوراق اعتماد
قدم لي ناجي الناجي أوراق اعتماده بوضوح واقتصاد وفصاحة بعيدة عن الغنائية والوقوع في فخ ” الحنين”. أثار انتباهي واصطادني لأقرأ روايته ببراعة. شدتني حركة بطله ومشاعره وهو يتلقى من زوجته تليفونيًا خبر الموافقة على التصريح الأمني بدخول بلده للمرة الأولى في حياته بعد عدة محاولات فاشلة سابقة. القى بنا مباشرة إلى بؤرة الحدث: الجيل الثالث من اللاجئين يتعامل مع ذاكرة غيره مع علاقة بعالم لم يره وربما لم يره أبوه أيضًا. يتحدث عنه مثلما يتحدث مندوب شركة سياحة عن بلاد لم يزرها مطلقًا شعر بأنه كاذب “أُسأل عن دورة حياة طفل يكبر أسفل زيتونة في البلاد فاصمت…. تيه علاقتي بالسرو والزيتون والعوسج وسوسن الفقوعة وعصفور الشمس يؤرقني”
حقيقة الأجيال الثلاثة رغم استقرارها بعد أن مضى على احتلال فلسطين سبعين عامًا شكلت صدمة غير متوقعة لي ربما لأني ولدت بعد نكبة 48 بسنوات قليلة واحتلتني القضية بإلحاح يومي طبيعي فلم أفكر فيما راكمته السنوات المنصرمة كأن الحق يجعلها ثابتة لا تتحرك في دنيانا وإنما في دنيا الآخرين. وكأن كل من ولد في الشتات قد ولد في الداخل وتم تهجيره ومر بما مر به جيل النكبة من تحولات. لم أتوقع أن تفتح كلماته عينّي على ما تجاهلته من بديهيات. سرقني بطله وأحكم الحصار على أفكاري فتركت له عقلي ومشاعري راضية بالرحيل معه ومصاحبته للقاء آخرين
بطاقة دعوته لي لم تكن الكتابة عن العودة الأولى وحدها على الرغم من أهميتها وبريقها لأنها تدخل في نطاق المجرب والأصيل في الكتابة الفلسطينية وهذا طبيعي لابد أن تحرك العودة إلى البلاد قلم أو ريشة أو مزمار الفنان وتهزه بزلزال يقلب مخزون القهر والحنين والمعرفة وحتى اليقين ، وقد لاقت مثل هذه الكتابة أهمية كبرى خاصة إذا ما جاءت من كاتب كبير مثل غسان كنفاني أو مريد البرغوثي أو إذا ما واكبت حركة تغير استراتيجي أثناء عودة الفصائل من تونس إلى غزة بعد اتفاق أوسلو ومنها رواية يحي يخلف “نهر يستحم في البحيرة “أو غيرها من الأحداث الاستثنائية التي استدعت انهمارًا في الكتابة والتعبير من البساطة إلى الفن الراقي
وهي تنقسم إلى كتابة فلسطينية وكتابة عربية منها: “عائد إلى حيفا” رواية غسان كنفاني وبطله الذي يتم تهجيره تاركًا ابنه خلدون ليعود بعد سنوات طويلة ليجده وقد ربته أسرة يهودية، ورواية نجوم أريحا لليانة بدر ورواية ربيع حار لسحر خليفة عن فترة عودة ياسر عرفات إلى غزة ، ورواية بينما ينام العالم لسوزان أبو الهوى وهي فلسطينية أمريكية كتبتها باللغة الإنجليزية بعد زيارتها لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين عام 2002 ورواية “رأيت رام الله” التي كتبها الشاعر مريد البرغوثي في جزئين الأول قصة حياته وعودته الى قرية دير غسانة بسبب عدم امتلاك الوثائق التي تسمح بدخوله، ثم الجزء الثاني بعنوان “ولدت هنا” لرحلته مع ابنه مريد للعودة الى قريته، وكتاب خالد عيسى “الصعود إلى الناصرة” من تحرير ربعي المدهون. وراويات رشاد أبو شاور ومنها رائحة التمر حنة، و”ملهاة” ابراهيم نصر الله في جزئها “أعراس امنة”. والأعمال العربية ومنها رواية “باب الشمس” للكاتب اللبناني الياس خوري وفيها يقدم حكاية يونس الذي يتسلل الى فلسطين للقاء زوجته نهيله في باب الشمس وروايات عربية عن فلسطين موضوعها ليس العودة منها: “الطنطورية” للكاتبة المصرية رضوى عاشور وسوناتا لأشباح القدس للكاتب الجزائري واسيني الأعرج وعلى عهدة حنظلة للكاتب العراقي إسماعيل الفهد اسماعيل و”الخرز الملون” للكاتب المصري محمد سلماوي، وللجزائرية عائشة بن نور نساء في الجحيم عن واقع المرأة الفلسطينية في المعتقلات. وغيرها من الأعمال التي تعرض للقضية
ماذا قدم الكاتب إذن؟
عدة عناصر منها: اللغة السلسة المحملة بالدلالات دون ازدحام حتى وهو يستخدم قصيدة النثر للتعبير عن اللحظات الفارقة حين يستدعي المكان أو الزمان في حياة أبطاله إذ تحتشد المشاعر لتخرج في إيقاعها الخاص قبل الولوج إلى ثلاثة مشاهد بعينها؛ حلم العودة وإن كان مؤقتًا، دخول القدس، ثم يافا موطن الأجداد وأصل النبتة
واسمع صوت غنائه وهو يقول
كوليد حط على البسيطة هائمًا
هنا، الآن لا دور للهواء ولا الجاذبية
الجسد يهيم بقوة حنين لم يكن
ورؤية كانت
ماذا أضاف ناجي الناجي الذي كلما كتبت اسمه استدعيت ناجي العلي وعدت لتصحيحه حتى لا تأخذني الكتابة فأنسى واستدعي بيروت وما جرى من ترحيل آخر ، خاصة وأنه ذكر استكثاره على خليل حاوي قراره إطلاق النار على نفسه كي لا ترى عيناه أي جندي خلال اجتياح بيروت. ويكون السؤال: كيف شكل بنية النص الروائي الذي اسماه سماء وسبعة بحور؟ اعتمد المؤلف على حركة موازية للبطل العائد مع شاب فلسطيني اسمه زياد من نفس عمره يعيش في الداخل ثم يرحل إلى المنافي ليقدم لنا بديلا لحياة بطله الأصلي الدبلوماسي الذي ولد خارج فلسطين. زياد البطل الثاني من مواليد مخيم اليرموك وقد نجح الكاتب في أن يرسم لنا الحياة الطبيعية المتكررة حد البكاء لأي شاب يولد في فلسطين تحت الاحتلال نتعرف من خلال رصد محطات في حياته على التفاصيل التي لفرط صدقها لا نخالها حقيقة بل وهمًا في شريط لا معقول؛ طفولته المهددة كل ثانية وبراءته المنتهكة وصباه المزدحم بأحلام الحرية والموت وخطوط الدم التي ترسم خريطة الأيام والدفع المستمر للطرد إلى الخارج في حركة دائبة لا يهدأ ولا يبقى لزمن محسوس في مكان ، ومعه نتعرف على المنافي بكل ما تحمل من غربة ووحشة وأمل وهزيمة وحب وخيانة أيضًا؛ من أوروبا الشرقية إلى الغربية إلى كندا لم تعد للأسماء أهمية ولا لظروف البلاد الأخرى أو لنظرتهم للمهاجر، الاستنساخ فعل قائم والوقت طارد وعفوي حد الجنون وتقبله يثير الموروث كله في لحظة وإدراكه عبء على الجميع
البطل العائد بلا اسم حتى يكون رمزًا لكل العائدين لأن بطاقته فاقدة لهويته الفلسطينية رغم حصوله على جنسية أخرى يرفض الاندماج في واقعها ويراه تدجينًا ما فائدة اسمه الخاص إذن إذا لم يكن هناك اعتراف ببلده من الأصل والحالة العبثية لها شرعية ربما أكبر من واقعه وكونه فلسطينيًا. اختيار التوازي بين البطلين وكل منهما ظلا للآخر أتاح الحركة في أكثر من عالم لم نعرف شيئًا عن طفولة البطل الدبلوماسي العائد ، وعرفنا كل تفاصيل حياة زياد لأن طفولة هذا الجيل الثالث في الداخل لا نعرف عمليًا عنها إلا ما يأتي من حوادث في الأخبار ولأنه يتيح تجوال عيوننا في عالمهم الذي أخذ من عالم الجيل الأول أشياء وترك أشياءً أخرى ويكون السؤال ماذا تبقى تحت هذا الضغط؟
كما أن عودة بطل ناجي الناجي مختلفة عن عودات أبطال غسان كنفاني أو جبرا أو مريد البرغوثي أو سحر خليفة أو ليانة بدر وغيرهم من الجيل الأول فكلهم ولدوا هناك ويعرفون البلاد في حين عائد ناجي الناجي ولد في المهجر ويعرف الوطن من الحكايات فهل تغيرت الرؤية الكابوسية التي قدمها يحي يخلف لضياع الحلم أو غسان كنفاني لصدمة استيلاء الغاصب للمستقبل بضياع خلدون ومحاولة استعادته عن رؤية العائد للصورة المرسومة في خيال عائد ناجي؟ وما رآه كل منهم للتغيرات التي حدثت في البلاد على يد الغاصب لأنه عمليًا لم يشهد الجيل الثالث أصل الصورة بل سمع عن خيالها، فظهر الاصطدام عنيفًا عند كنفاني هادئًا عند يخلف مندهشًا مستفزًا عند ناجي
أظن أن هذا الموضوع تحديدًا يحتاج من ناقد كبير إلى تحليل هذه الفروق بين نظرة الأبطال العائدين للوطن لأول مرة وبين عودة الجيل المطرود الذي يعرف وطنه معرفة واقعية يقينية يعرف بطل يحي يخلف الفرق بين قريته سمخ من الجليل وتسيمخ التي غير الصهاينة اسمها ولا يحتاج لدليل كي يحكي له قصة التغير عند ناجي الناجي رغم أن بطله يحفظ الخريطة عن ظهر قلب. ربما يضيف مثل هذا البحث معرفة مهمة للأدب الفلسطيني المعاصر
ونحتاج أيضًا إلى تحليل الفرق بين نظرة العائد المؤقت المغادر ثانيًا إلى المنفى وبين العائد المقيم ونظرته للوطن مثل الفرق بين عودة بطل مريد البرغوثي وناجي الناجي وعودة بطل يحي يخلف أو أبطال سحر خليفة في ربيع حار أو ليانة بدر في سماء واحدة ثم نجوم أريحا ويكون السؤال هل وجدوا بالبقاء ضالتهم أم شعروا بالاغتراب أيضًا؟وقد يجيب عنوان ديوان أحمد دحبور “وصلت حيفا ولم أعد إليها” على هذا السؤال إذ أن حالة الاغتراب جاءت واضحة عند الشعراء خاصة محمود درويش وأيضًا محمود شقير في (ظل آخر للمدينة) وبشكل لافت أو كما ذكر السارد في قصة سماء واحدة لليانة بدر: “فاجأتني عشرات خيبات الأمل لدى عودتي. وتنكر أناس كثيرون كانوا يعرفونني. ووجدت الأرض منهكة تحت عبء احتلال طويل. لكن هذا لـم يوقف لحظة، شعوري بأنني إلى هناك أنتمي”. أو كما قال السارد في نجوم أريحا: ” ها أنت ترى الآن أنني عدت بلا أريحا.”
وكما قال يحي يخلف في حديث له: كان أول ما فكرت به أن أزور قريتي، وبالطبع صدمت عندما وجدتها وقد تغيرت معالمها، لم تعد كما رسمتها في ذاكرتي والذاكرة الجمعية لأولئك المسنين، أعني صورتها كوردة في ديوان شعر، وكمعمار فني بنيت مداميكه بخيال ينبض كقلوب العشاق”
بنية نص ناجي
ونعود إلى رواية سماء وسبعة بحور وتنامي الأحداث في نص ناجي الناجي التي سمحت لها البنية ببراعة الكشف فنعرف أن ما بقي هو امتداد حقيقي لا يتحلل كما هو متوقع بحكم الزمن وإنما تنمو له أجنحة من العذابات اليومية التي تنتهك الإنسانية ولا تدفع بالموجودين إلى الفرار بل إلى التمسك بالمتبقي في أيديهم؛ أبو أدهم الكهل الذي يعيش في القدس يواجه مشاكل يومية تدفعه لبيع محله والرحيل لكنه يقرر البقاء ويرفض الثمن الهائل المعروض عليه ليبيع ويحصل بعد نصف ساعة على “فيزة” دخول إلى أي بلد، ويقبل أن يدفع ضرائب أكثر من مواطن سويسري ويتمسك بأرضه وبيته ودكانه
رامز الذي يعيش أمام الجدار الإسمنتي وفي مناوشة أثناء بناء الجدار بعد زواجه بثلاثة أشهر يتم اعتقاله ويحكم عليه بالسجن ثماني سنوات ويترك العروس حاملا في طفل تنتظر
الجامع في العباسة الذي تحول إلى الكنيس نماذج تم التقاطها ببراعة لترسم اللوحة
سمحت البنية أيضًا بالوقوف داخل الخريطة عند مفترقات طرق وتحولات وانتهاكات لمدن بعينها ، كل المدن والقرى تم انتهاكها فلماذا اختار ناجي الناجي الوقوف عند معارك معينة وأحداث معينة؟ هذا هو الفارق بين فنان وآخر يعتمد كل منهم على رؤيته لما يأتي أولاً في الأهمية ليقيم دلالة ما يريد إيصاله
الاتكاء على فكرة تبدو في الظاهر بسيطة وهي غير ذلك: البحث عن النابغين في الكتابة والفن من الشباب الجدد واستكتابهم عن كل ما يمرون به لتوثيق كل ما يحدث بالتفصيل ثم انتقاء المبدع من بين هذه الأعمال ثم تنفيذها سينمائيًا حققت غرضين الأول إيجاد سبب إضافي للترحال داخل المدن الصغيرة والقرى والثاني إضافة لبنة لتحقيق الفكرة العامة للرواية؛ أن الذي يحكم هذا العالم هو تيار عام للتمسك بالهوية وليس رغبة فردية تموت بموت صاحبها. في البداية حاول العائد الوصول إليهم عبر جهد فردي ثم اكتشف أن منظمات من الداخل تقوم بالفعل بهذا الدور مما أكد على استمرار التيار
في رحلة زياد بدأ الراوي بدك مخيم اليرموك عام 1980 وانكسار براءة الطفل باستشهاد صديقه سمير واختفاء صديقه الآخر يحي ثم عين الحلوة بلد الألف شهيد 1982 لاستكمال قطعة فسيفساء في اللوحة التي يرسمها؛ كيف يعيش الناس تحت القصف في لحظة الاحتياج إلى قابلة تسكن في جهة أخرى من وطن ممزق والمرأة التي تلد زوجة فدائي غير موجود الآن ذهب لتنفيذ عملية فدائية. يسمع زياد من أحد الفدائيين تعقيبًا: سيخسر الحرب من سينتهي أولا
نقلنا المؤلف إلى رؤية اختياراته للأماكن من خلال عين العائد ليكمل رحلته وعكس بهذا الفعل حركة زياد الذي تحول في هذه اللحظة إلى مهاجر للمرة الأولى مستدعيا في كل ثانية تفاصيل الوطن والقهر، وهي فكرة ذكية لأنها صحبتنا على صعيد عدة أزمنة وأمكنة من ناحية، ومن ناحية أخرى قدمت استمرارًا لفكرة غسان كنفاني في روايته رجال تحت الشمس؛ أن الهروب إلى الهجرة من الواقع الفلسطيني المذري هو هروب إلى لظى الصحراء ولهيبها بما يحمل من رمز للبلاد المحيطة والموت أيضًا
بديهي أن تكون محطة العائد الأولى بعد عبور الجسر إلى الضفة مدينة رام الله وبيت أهل زوجته تقول الزوجة
من هنا نرى القدس في الصيف والربيع حيث لا غمام نرى أضواء المدينة
ويعلق الراوي “سئمت رؤية البلاد عن بعد وهنا في البلاد يشيرون كاللاجئين مثلنا إلى باقي البلاد! حنين الداني إلى جغرافيا المكان أشد قهرًا حيث ولوج ساكن البلاد لامتداده لا يقل صعوبة وحلمًا عن نظيره خارج الحدود”
تذكرت زوج صديقتي الفلسطينية وأنا أدعوه لزيارة قريتنا ليتعرف على وجه آخر لمصر، صمت قليلاً ثم قال يستطيع المصري عبور بلاده كلها كقطعة أرض واحدة ، قلت له بسذاجة لأنها وطنه ولم أنتبه ساعتها إلى أنه لم يكن يكلمني في الواقع وإنما يردد بينه وبين نفسه البديهية المحروم منها الفلسطيني اقشعر جسمي ولم أنطق وذكرتني رواية ناجي الناجي به وبأزمته
لم أندهش حين اختار العائد قبر محمود درويش محطة أولى في بلاده ليس بسبب الحنين إلى الرمز الوطني ، بل لأن الراوي يمتلك ناصية الشعر ويدرك أهمية التعبير في حياة الفلسطيني التعبير الذي يثبت الحقائق ويمنع تزييفها وينفخ الحياة في الأرقام التي تأتي في نشرات الأخبار بعد أن تحول الاحتلال إلى خانة القضايا المزمنة فلم نعد ننتبه لها أو نراها؛
استشهاد ثلاثة بينهم طفل. انهيار بيتان، ضرب مدرسة حتى الأسماء اختفت تحت غبار القصف
هنا يستظل المنسي بالأمل
والضرير بالرؤية
والميت بالأغنية
الطريق إلى جنين محفوف بحواجز كثيرة منها عيون الحرامية ونسمع القصة وننتقل إلى المخيم لقصة أخرى نعرف منها تقويما جديدا يعيشه أهلها قبل المعركة وبعد المعركة تفاصيل الاجتياح والمجزرة وقرار المقاومة لخصه صديقه في كلمات قليلة: “أرادوا تحويل المخيم إلى مجمع سكني تاريخ جديد متخفف من الروايات السابقة ومتناس لكل أسباب استبدال الحقل بالزقاق والبحر بمياه الصرف الصحي وتصيير وشم الخارطة المنقوشة على سواعدنا إلى وجه مطرب روك وإحلال أمر سبابة مستوطن وافد من خلف ثلاثة بحور على حاسب آلي بدلا عن غرزة تطريز ثوب أمي الممزوج برائحة الخبيزة والهندباء ما أرادوه كثير وكبير جدًا”
وتستمر الرحلة إلى الخليل حيث سارت ستنا مريم إلى بيت لحم لتضع وليدها وخرج المواطنون إلى أعمالهم من النوافذ بعد أن أغلقت سلطات الاحتلال الأبواب لتطفيش السكان وتتوالد الحكايات التي أراد المؤلف اثباتها وبناء تاريخه الحقيقي بديلا للأكاذيب يطارده خيال أكبر من حدود نصه. ثم تأتي الدرة القدس. هنا يستفيد من تقنية الكتابة البوليسية لإضفاء التشويق على الرحلة التي لم تكن في الحسبان فالتصريح لا يتضمنها والمغامرة تؤدي إلى الاعتقال ثم تأتي فرصة الدخول مثل مطر غير متوقع وفرصة لا تعوض فينتهزها
تبادل الأزمنة مع رحلة زياد المهاجر الجديد الذي يستدعي ظروف الأجداد مع حاضره في الشتات أضافت للمأساة أبعادًا أخرى ونبهتنا إلى أن القصة لم تنته ما زالت تحدث حتى الآن وكنا نظنها انتهت باحتلال 48 أو 67. رحلته من بودابست إلى صوفيا حيث أراد زياد تعلم النيستناري أي المشي على الجمر في إشارة واضحة لما يجابهه الفلسطيني ماديًا ومعنويًا ومنها إلى تونس التي احتضنتهم بالأمل وعلامة النصر وبالدم أيضًا حيث حمام الشط ثمانية وستين شهيدًا ليعود الفلسطينيون إلى عاداتهم بزيارة المقابر كل عيد.
طبيعي أن نراه في القاهرة في جامعتها حيث تجري القصيدة على شفاه الحالمين فيسمع الحناجر تصدح
يا فلسطين يا فلسطين أرضك أرضي ودينك ديني يا جنين يا جنين نحن معاك ليوم حطين
على الرغم من أن فعل المواجهة لم يطرح بشكل مباشر إلا أنه موجود بذكاء خلال النص الذات والآخر المعتدي القوة القاهرة التي أخرجت دجاجات اسحق الحسيني من مكانها أمام الدجاجات الغريبة القوية أملا في غد ما شرحته لهم الدجاجة الحكيمة؛ ما عليهم إلا الانتشار في الأرض ونشر السلام. الصراع على الأرض موجود في اختيارات ناجي الناجي لمواطن زيارته في كل نقطة صراع، لكنه يتخذ عكس الموقف الذي اتخذه الحسيني ودجاجته ويظهر لنا جانب المقاومة بدلا من جانب الخذلان الذي أرادته الدجاجة الحكيمة بموقفها الرومانسي وأوهامها حول تغيير العالم. وأيضًا يقدم نماذجًا مختلفة عن الإنسان الفلسطيني العاجز عن فعل أي شيء الموالي للصهاينة مثل سعيد أبي النحس المتشائل للعظيم إميل حبيبي في روايته الوقائع الغريبة ويصل إلى نفس النتيجة التي وصل إليها إميل حبيبي بسخريته المُره في كل أعماله؛ عبث التعامل مع الآخر واستحالة استمراره
وتبقى لي ملاحظة لم يعالج ناجي الناجي في روايته أي شخصية انهزامية وخلت الرواية من خائن أو متخاذل أو سارق أو كاذب أو حتى كسلان لم نعرف صفات الشخصيات؛ كريم طماع صادق وربما حتى ملامحهم باستثناء جلد البطل لذاته بالمعرفة الناقصة عن بلده كما خلى عمله من موقف إنساني يعكس الحياة الاجتماعية داخل الأسرة أو في التعامل مع الآخر الفلسطيني بعيدًا عن القضية لأنه قدم ما تجره القضية على المجتمع في بناء الجدار أو حركة العابرين من مكان لمكان للذهاب إلى أعمالهم أو مواجهتهم للاعتداء عليهم بهدم بيوتهم ومدارسهم وسجن شبابهم بعد كل عملية فدائية، وهو ما يدفعني لوصفها برواية الإطار العام لنظرة طائر لرؤية شمولية حددت تركيزها على أفق محدد
انتظر من ناجي الناجي الكثير تحت نفس السماء وبعد عبور السبعة بحور لينقذ البطل حبيبته ويأتي لها بحل المشكلة التي تعاني منها بلدها، فما بقي من قراءتي لروايته هو متعة الفن والإدراك معًا وبقاء الشخصيات في روحي تصحبني كأنها من أقاربي وتجعلني أزداد انحيازًا لكل ما يقدمه مبدع فلسطيني حقيقي. تحية للكاتب المسرحي القاص والروائي الدبلوماسي ناجي الناجي وتهنئة خاصة لصدور روايته سماء وسبعة بحور
——————————
بقلم: هالة البدري
من المشهد الأسبوعية