في كتاب “خنجر إسرائيل” وهو عبارة عن حوار مطول أجراه الكاتب الهندي كرانجيا رستم خورشيدجي مع موشيه ديان عام ١٩٥٧، وكشف فيه عن مخطط إسرائيل بتقسيم العراق وسوريا ولبنان إلى دويلات. سأل كرانجيا ديان: “ألا تخشى أن يكتشف العرب خطتكم؟”، فأجابه: ” اطمئن. فالعرب لا يقرأون”..
صدق وهو الكذوب.. حقًا لم نكن نقرأ، وها نحن نقرأكم بعيون كاتبنا عز الدين ميهوبي في رائعته الجديدة: “سيرة الأفعى”..
غلاف أسود اللون ينتشر فيه الظلام عدا رقعة مضيئة على شكل خريطة فلسطين، وبداخلها رجل يجر من خلفه حبل أو خيط مربوط به مفتاح كبير..
بالخلفية كلمات عمن ابتكروا توراة أخرى، وحوار بين ريناد ووالدها الذي يوصيها بالعائلة أولًا وبفلسطين دائمًا..
لتقف ريناد أمام المرآة تتحدى كل شئ قائلة بأنها الأفعى التي ستنتقم..
يهدي الكاتب روايته إهداءً رائعًا إلى بطلة الرواية التي وكما يقول: “ابتكرها وصدقها” وهذا منتهى الصدق والإحساس القوي بتلك البطلة التي عششت بقلبه وكأنهما كتبا سويًا هذا العمل..
تبدأ الرواية بكلمتان غاية في الأهمية:
“أنا ريناد” وتتبعهما بشرح معنى اسمها، لندرك ونعي أن صوت الرواية سيكون صوت أنثى ستتحكم بنا وتنقلنا إلى عوالمها الواضحة والخفية سواء بسواء..
ولدت ريناد في حيفا، حيث المحتل الغاشم الذي يطلب أوراق هويتها في كل خطوة تخطوها فوق أرض مدينتها فترفع رأسها بكبرياء الأنثى قائلة له:
“أنا فلسطينية، لن تفلح في محوي من الوجود، لا أرض لي سوى هذه الأرض.. وسأستميت في أن تكون لي خيمة وقطعة خبز (هنا)، فأنا ليس لي (هناك).. أما أنت وأمثالك، فتغتصبون (هنا) الذي نملك، بينما تملكون أكثر من (هناك)..
ولكن يختفي صوت ريناد فورًا لينتقل بنا الكاتب إلى ١٦-٨-٢٠٠٦ “بعد عدوان إسرائيل على لبنان” وعلى رقعة شطرنج بمقهى اجتمع مجموعة من الرجال يلعبون ويتحدثون في الأوضاع السياسية المحلية والدولية والعربية والعالمية.. وانتهى الحوار بقلب رقعة الشطرنج وحرق مقال بجريدة وانفض الحضور على انتظار للقيامة..
يبكت أمنون طالب إسرائيلي من جماعة “السلام الآن”معلمه البوفيسور عزرا طويلًا عن الفقاعة المسماة بإسرائيل بقوله:
“إن عددنا يمكن تقييده في سجل بالكنيست، وينادي علينا كل صباح”..
أما البروفيسور عزرا فيقول عن العرب بعد حرب لبنان ٢٠٠٦:
“هم اعتادوا على الموت بالجملة.. نحن خسارتنا في الحروب لا تختلف عن البورصة في سوق المال”..
تظهر ريناد ثانية في بيت أمنون “أب روسي وأم هولندية”.. ناقمة هي ريناد على حياتها وأوضاع بلادها التي تشبه الثكنة العسكرية، أما أمنون فقد تعاطف مع والد محمد الدرة لا يشرفه الانتماء لشعب يقتل الأطفال، مفكرًا في الرحيل عن إسرائيل، ولكن إلى أين ترحل ريناد وهي التي ولدت في حيفا؟! يتبع شقيقها نديم الشيخين رائد والخطيب ويخاف عليى ريناد من مخالطتها لليهود أن ترتدي يومًا طاقيتهم..
حتى عاموس الأستاذ المساعد في مادة التاريخ في جامعة تل أبيب قال عنها هو الآخر أنها أفعى وقال لها أثناء اللقاء والحديث عن الحرب:
أما رأيه عن النساء العربيات. فقد أثار كبرياء الأنثى العربية بداخلي:
“يهودية واحدة من اليمن، تساوي أوكرانيتين وبولندية وروسية، أما العربية فكلهن مجتمعات”..
يبدأ عزرا ويوسي في تبادل الأفكار حول تجنيد ريناد وعاموس وحينما اتهمها عزرا بأنها أفعى رد يوسي أن “بعض الأفاعي طيب مثل الحريديم، ولا يحتاج إلى وقت لترويضه”
حذرتها أمها اليهودية أن لا تقترب من الذئاب، وطلب منها والدها الفلسطيني أن تفكر مرتين، ترى هل ستطيعي يا ريناد أم أن بريق منحة دراسية في مجال دراستك بكلية الهندسة في تركيا أو مصر أو قرطبة سيغويك؟!
تسافر ريناد إلى تركيا وتحاط بأعين المخابرات اليهودية طوال الرحلة ولكنها تنتهي منها بدون أن تشعر بأي مصطيدة أوقعت نفسها فيها، وعادت وكما يقول الكاتب تلملم أشلاء امرأة منهارة..
تعترف ريناد أن لملمسها ملمس أفعى وهذا شئ يجعل القارئ يتعجب، أي امرأة تلك التي تصنف نفسها بصفة أسوأ الكائنات: “الأفاعي”.. ولكنه لا يلبث أن يدرك أنهم أرادوها أفعى، فقررت أن تكون لهم أفعى..
من أجمل ما قرأت بالعمل حوار الرئيس الفرنسي شارل ديجول مع الملك السعودي الراحل فيصل، فقوة فيصل على الجدال وإفحام نظيره بالرد، لابد وأن تدرس وتوضع في كل مكان على الانترنت كي يقرأه أولادنا وشبابنا بل ورجالنا، لما فيه من وعي جعلني أتمنى وجود عدة رجال من أمثاله رحمه الله..
في إحدى اجتماعات الصهاينة لوضع خططهم البائسة في بث الفتن بين الشعوب العربية وحكوماتهم وجيوشهم بل ومذاهبهم المختلفة تحدث أحدهم على العمل في الخفاء وكأن هذا شأن عربي لا دخل لهم فيه وقال:
“نحن أبناء يعقوب ولا صلة لنا بما جرى ليوسف”.. حقًا إنهم قتلة فجرة..
كانت ريناد ترى في فلسطين من يبيع ضميره فتتساءل بحزن عن الفارق بين الخيانة وبين من يبيع ذمته ليجيبها والدها:
“بيع الذمة هو صفقة بين الشرف والابتذال، يكسب المرء فيها بيضة ويخسر دجاجة، أما بيع الذمة فهي رهان خاسر بين أن تموت واقفًا أو مكشوف العورات بين الناس، إن لم تخسر نفسك خسرت وطنك وهو آخر ما تملك”..
بعض شباب اليهود يحلم بالعودة إلى مسقط رأسهم رغم أنهم لم يولودوا سوى في فلسطين المحتلة، هم يشعرون بالخزي في بلاد اغتصبها أهلهم، وحان وقت الرحيل، حتى أمنون الذي قرر الرحيل إلى أمستردام رغم أنه يعرف أنه “سيغادر الجعرافيا ولن يغادر السكان”.
وها هي ريناد الأفعى تواصل جهادًا لا ولن ينتهي، حتى وهي حامل، إذ تحسست جنينًا في بطنها ووعدته قائلة:
“كل هذا سأرويه لك عندما تسألني: ماما ماذا قدمت لفلسطين؟ وسأربيك على أن حفنة تراب من حيفا أو الخليل أو القدس، لا يمكن المقايضة عليها في كل بورصات العالم”..
بدأت الرواية في ١٦ أغسطس ٢٠٠٦
وانتهت في ١٤ يونيو ٢٠١٩
وجاءت في ١٢٣ مشهدا، قد يأخذ البعض على الكاتب طول الرواية،ولكن هو حق فلسطين عليه أن يسرده وإن زاد فحبًا وامتنانًا وإحقاق حقا..
وضع لنا الكاتب معلومات روايته بصورة شاملة مختصرة ومكثفة، رواية معرفية تشبه كبسولة الفيتامين التي نحتاجها جميعًا في زماننا هذا..
يضع اليهود أعينهم على كل رقعة في خارطة البلدان العربية، بحجج مزيفة أنهم كانوا فيها وطردوا منها، ولا أدري حقًا لماذا لا يقوموا بهذه الرؤى والأحلام في ألمانيا والدول الأوروبية التي خرجوا منها إلى أرض اغتصبوها من أهلها؟!
وختامًا يقول المبدع الفلسطيني إبراهيم نصر الله في روايته دبابة تحت شجرة عيد الميلاد، ج٣ من ثلاثية الأجراس، على لسان زيدان:
“بالطبع نحن لا نلعب مع الاحتلال لعبة شطرنج، ولن تتحرّر بلادنا بلعبة شطرنج، لكنّ ما نحتاجه هو ذكاء لاعب الشطرنج في كلّ عمل نقوم به، وفي كل خطوة نخطوها!”
وفي روايتنا قال كاتبنا على لسان عاموس:
“الحقيقة لدى السياسيين تختلف عن الحقيقة التي يؤمن بها المثقفون والمفكرون، فإذا كان أهل السياسة يقبلون قسمة الحقيقة على اثنين وثلاثة وأربعة، فإن أهل الفكر يريدونها واحدة أو بلون واحد”.
بالفعل تعامل الكاتب مع الأحداث والتاريخ كلاعب شطرنج محترف يلعب بلون واحد هو اللون الأبيض، أمام صهاينة يتشحون بالسواد وبعد مباراة طويلة، وكما أحسست عند نهاية الرواية فالمحصلة النهائية هما كلمتان لا ثالث لهما في عالم الشطرنج:
“كش ملك” ليموت ملك اللون الأسود كما نتمنى آجمعين..
من القلب شكرًا أستاذ عز الدين لثقتك الغالية بقراءتي للعمل الذي يحتاج أن يقرأ مرات ومرات، ونحتاج أن نجعل شبابنا يقرأه ليعي الكثير