رغم تجنبنا اعتماد أية أستنادات من حياة الكاتب والاعتماد على الالتصاق بالتجربة المنجزة (= المتن المتحقق) باعتبارها الأثر الحي
الذي يشكل مشاريع القراءة والتحليل والتأويل اللاحقة فيما يصنف تتبّع حياة الكاتب معطيات قد تخص اجتماعيات أو ربما تاريخيات الأدب ولا تخص جوهر الأدب ودراسته دراسة نصية، إلا أن ما كان يثير استغرابنا في تجربة الشاعر (محمد طالب محمد) ذلك الترابط الذي بدا لنا متطابقاً تماماً بين حياة ذلك الشاعر المغترب وشعره، والذي انتهت حياته عندما أغتاله متشددون إسلاميون حينما كان يعمل في التعليم في الجزائر بعد رفضه تهديدات أرسلها له مسلحون متشددون إسلاميون (بوجوب) فصل الذكور عن الإناث في مدرسته التي كان يديرها فانتهت حياته ضمن مسلسل العنف والتطرف في الجزائر بعد رحلة اغتراب ثم عودة ثم اغتراب بين العراق والجزائر. ليس بأيدينا من اثار الشاعر محمد طالب محمد سوى ديوانه الوحيد الذي بعنوان (التسول في ارتفاع النهار)، والذي بدا لنا نصاً يتخذ بؤرة اشتغال وحيدة هي ثيمة الارتحال، فقد كان منذ عنوانه مفارقا للسائد، (فالتسول) الذي كان مفترضاً فيه أن يتخذ درجة ما من السّرية التي يفرضها التعفف الذي هو صفة طبع في كل إنسان يرفض الشاعر محمد طالب محمد إلا أن يمارسه (في ارتفاع النهار)، ورغم ان التسول لا يغني من الحاجة شيئاً فليكن لفرط مداهنته في ارتفاع النهار حينما (أمتهن الكدية.. في الطرقات العامة)،لقد كان محمد طالب محمد يبث في ثنايا نصه بؤراً تتركز حولها هذه الثيمة (الترحال والتسكع والتسّول) كالبلورات التي كان يوزعها الرسامون التكعيبيون في لوحاتهم (التكعيبية التحليلية): ميناء , فلوات رمليه، مرسى، سراً (أصبحُ بدوياً أخر، /يأتي ويروح../ وأنت سجين/ في طرق يائسة.. ص6
(نحن نطوف) ص8
(ماراً بمراسي الدينا) ص8
(وأنا أعبر بلدان الله..) ص9
(أجوب النهارات) ص10
(في لقاء التسكع) ص11
بدا لي ديوان (التسول في ارتفاع النهار) أيضاً نصاً تهمين فكرة الجوهرانية عليه لتشكل ليس فقط لب نصه (=صفته العميقة) بل و (قشرتة) أي (صفة السطحية) وبذلك فهو يؤسس حميمية نصه الذي ينغلق على نواته، فينقل ذلك النص عدوى البحث عن مفتاح لفتح ذلك الجوهر الذي هو داخل القصيدة وهو كما بدا لنا جوهراً مغترباً رحالاً لا قرار له، رغم بعض سماته المشخصة التي يؤكدها (باشلار) حينما يتحدث عن فكرة الجوهر باعتبارها تردّ الى (فكرة تشخيصية) تشكل جزءاً (للرؤية من زاوية حميمة) (تكوين العقل العلمي ص81) أنه جوهر مغترب كرس له قصيدة (سياحة) التي تبتدأ منذ عنوانه بمعاني الرحيل، وتبتدأ في النص بالرحيل الى الداخل: (حين يغور نجم ابديّ/ تحت ثيابي/ أبتدر الحلم الأقصى/ بعواءٍ واهٍ) ص19
(أهمس بدبيب/ يتسرب من أعماقي) ص21.
(أغور… وتَظلمّ الرغبة) ص21
كما تملؤ النص أحلام مفزعة وكوابيس وأجواء سوريالية:
((صرخات نساء، ومزامير/ تجفوني معتكفاً/ في الوصب المتلبد حولي.. / تنخسف كل رمال القفر../ وترتفع الجدران الملساء بلا أبواب))0
بينما يخرج الشاعر في المقطع الثاني نحو الخارج، خارج نفسه في نشور بطولي: (انشر كفني/ وأطرّزه بالطيور) ص22
(أرسم قافلة وضفائر/ وأطرّزها في كفي) ص23
وأخيراً تأتي الحركة الثالثة,هزيمة أمام القوى الخارجية:
(مغموماً جافاً/ أحفر الأرض/ أزرع رجلي ندماً) ص25.
(أتاني الباطل، ناساً وكلاباً متوحشة) ص25
وتتحقق النبوءة ذات الفأل السيء حين:
(يرقص حاجبي الأيسر عشوائياً)
وهي فأل سيء في الوعي الشعبي العراقي حينما (ترفّ) العين اليسرى فذلك، نذير شؤوم سيقع، وقد وقع أخيراً حينما أنهت (ناس وكلاب متوحشة) حياة الشاعر محمد طالب محمد.أن الصوت المنفرد القوي كان لسان حال الشاعر طوال نصه، فهو لا يتورع عن ان يقوم بتعداد لأوصافه في قصيدة ( الفتوح) حيث تقتبس منها الصفات (= الاساء):
“عالقاً بالعواقب كبرى تحاصرني/ تائهاً في المقاهي/ هارباً من سكون الصحارى/ موطئاً لوساوس، حيرى/مروراً بقلبي/ عابراً غابة الحزن/ موقن أن لي وجه أشرعةٍ لم تجئ/ صائماً, كالعصا، أستلبتني الأيادي/ قارئاً كل منتطر/ طاهراً في شواطئ غائبة/ غائباً/ ثملاً/ ظمأ في الفيافي/ ضارعاً للشواهق/ ضارباً في السماء/ تائهاً في المقاهي/ملكاً للهراء”.
ويصف نفسه بالرحالة في مواضع عديدة:
((نحن الرحالة في كنف الصحراء الميتة/ مغترب ولاءً للنجم/ والتنقيب عن الغابات المتحجرة)).(شرق عدن، ص93)
وتشكل قصيدة (الرحلات) سِفراً للسفر بين (الأدوية) و (الأحجار الصعبة) و (هضاب خاوية):
((متروكاً في هذي الوحشة.. / مبتلاً عرقاً.. الهث جرياً.. / بين خوانق ومصبات.. أحواض.. برك.. / عفن أخضر.. غازات راكدة.. / تلك حضارات الله لتسود الأعماق بقدسيتها الأولى..)
(الرحلات ص106)
————–
*التسول في ارتفاع النهار/شعر/ محمد طالب محمد/ عام 1974/مطبعة الغري /النجف/العراق