أكثر من نسق ثقافي في هذه الرواية، نسق الاستدعاء ، ونسق التعويض، ونسق المخاتلة.
ولعل نسق الاستدعاء هو الأكثر تداولا عند العرب، ذلك لأننا الأمة الوحيدة التي مستقبلها ماضٍ.
ويميل المؤلفون لنسق الاستدعاء أما خوفا من السلطة أو لغرض فني، أو لاصطياد المتلقي وجعله مهيئا لاستقبال العمل الإبداعي.. ومما لا شك فيه أن د. فيصل الأحمر مارس نسق اصطياد المتلقي بدءاً من عنوان الرواية، وهو عنوان مغرِ جدا ومحفز للقراءة، وقد جرت العادة أن يستدعي المؤلفون رموزا من أمتهم ، لكن فيصل الأحمر وقد سبقه آخرون مثل الروائي العراقي علي بدر الذي استدعى سارتر في بابا سارتر ليسخر من الوضع العراقي في ستينيات القرن الماضي ولعل الحياة العراقية في زمن رواية علي بدر تتقبل استدعاء سارتر بسبب ازدهار الصراعات الايدلوجية، لكن الأمر مع فيصل الأحمر يختلف، فقد مارس استدعاءً مزدوجا لا علاقة له بالواقع الجزائري الحالي؛ فقد استدعى ماركس، الذي كان قد زار الجزائر فعلا، ثم اعتمد نسق الاتكاء فاتكأ على الآية القرآنية ( وجاؤوا أباهم عشاءً يبكون) ففي الآية الكريمة كان العشاء الأخير لهم بعد أن رموا النبي يوسف في البئر وظنوا أنهم قتلوه، أما فيصل الأحمر فقد عاد الى القرن التاسع عشر مستدعيا نفسه ليستحضر ماركس ويكلمه وينقل كلامه للمجتمع ثم يقتله. ولي أن أختلف مع من ذهب بعنوان الرواية لحكاية عشاء السيد المسيح، ذلك لأن العشاء الذي كان يتمناه فيصل الأحمر هو عشاؤه الأخير مع ماركس ليخرجه من رأسه ويقتله؛ وقد تلاعب الروائي بالزمن في هذه (السيرواية).
فيصل حاول قتل ماركس وجعل عشاءه الأخير ولم يفلح.. فظهر ماركس الأحمر على وجه فيصل في أول صباح بعد ذلك العشاء.. ليقتل فيصل.. هذا ما تقوله الرواية أو هذا مضمرها.. لكن فيصل لم يمت بل عاش في صراع فكري شخصي.. للحد الذي دافع عن العرب والمسلمين بلسان ماركس، ثم لم يتخل عن جزائريته فأشاد بشمسها بمخاتلة مثيرة.. كأنه يريد القول أن لا بد من شمس أملٍ وخلاص.. تشرق بعد العشاء الأخير أو وليمة قتل ماركس.. وهي في مضمرها وليمة قتل فيصل الماركسي ليعود لأطفاله ويصلي معهم في بيته وفي المسجد كاتماً حرب الأفكار الأيدلوجية في داخله.. أما لماذا قام فيصل بقتل ماركس.. فالجواب: إن فيصل عاش في زمن الجزائر الحرة غير المحتلة.. وأما لماذا هرب فيصل من واقعه ليجلس مع ماركس وينصت اليه..فيكمن في أن ماركس يهيمن على تفكير الروائي لذلك يبتكر سبل التواصل مع المهيمن على تفكيره، ومن بين هذه الأسباب تدهور الأوضاع المعيشية وكأنه يستنهضه ليعيد انتفاضة الوعي الجمعي ضد الطبقية.. والجزائر جمهورية والجمهوريات فيها مناخ صالح لافكار اليسار .
يتسلل صوت المؤلف بل بصره لينقل لنا صورة فيصل الأحمر لا صورة أو رؤية ماركس، فيقول:
(كان المنظر أمامه مثيرًا للانتباه: عمائم كثيرة تتراوح بين البياض والزُّرْقة
حينًا، وبين شدة التأنُّق في الوضع وسرعة التخلص من وضعها حينًا آخر.
“العرب..
لا أحد يحبهم.) لا علاقة لماركس بالعمائم والعرب ، فالرجل أممي وليس إثنيا أو قوميا لينطق كلمة ( العرب) أو يقتصر فكريا على أمة دون أخرى، هذه المعاناة هي معاناة فيصل لذلك يلقي بها أمام عيون ماركس المستدعى قسرا لوليمة قتل اسمها العشاء الأخير.
وإذ يمارس المؤلف نسق المخاتلة فإنه يقوّل ماركس ما يريد قوله هو وكل مواطن جزائري: ( عليكم أن تشكروا الله إن وجدتموه فعلا على نعمة هذا البلد. الماء
والخضرة والشمس.. البحر والجبل والحرارة المناسبة للجلد.)؛ وهذا يكشف لماركس بأجواء ونعم تخص الجزائريين الذين يشكرون الله على هذه النعمة؛ أن الصوت صوت فيصل الأحمر إذ لا علاقة لماركس، سوى الحيلة التي التي مارسها فيصل بقوله ( إن وجدتموه)! .
(جيني الحاضرة صوتًا وروحًا. كلما خلا إلى نفسه قليلا جاءه صوتها يقول
شيئًا. قد يسكن المرض لسنوات جسم المريض إلا أنه لن يشبه الموت أبدًا.
الموت مرض بقناع إغريقي يقف حاجزًا بين الواقع والخيال. كانت عادتها هي أن تبادره بسؤال حول واحد من كتبه الموضوعة أعلى
ركام الكتب أو بجوار السرير: .. “كيف يمكن للتاريخ أن يكون مرتبًا
حسب سَبَبيَّة وعلِّية عالية، ثم لا يُحيل على أي شيء..؟) أرى أن هذا الصوت أو السؤال هو صوت أو سؤال فيصل الأحمر.. وليس سؤال جيني ) فالأحمر تلبس ماركس حتى كأنه يكلم نفسه عن نفسه وكلتاهما ماركس.
الأحمر يحاور نفسه ويخشى من نفسه أن تكشفه ، فهو مصاب بنسق التشظي لدرجة أنه يتساءل بصوت جيني ويتذكر بعقل ماركس ويخجل بمشاعر جيني ويجامل بروحية ماركس، ونسق الاستدعاء الذي دفع بفيصل الأحمر جعل من لون لقبه ( الأحمر) جسرا للمضمر الثقافي، بأنه يريد التخلص من ماركس رغم كل هذا الهوس به، فاختار له الليل وقتاً للموت، كي يخرج فيصل من ظلام سجنه خلف قضبان ماركس الى صباح مشرق له وللجزائر التي كانت تئن تحت الاحتلال الفرنسي؛ لذلك سينجو فيصل لكنه يبقى الأحمر كي لا ينسى عشاءه الأخير مع ماركس الذي لم يفارقه لكنهما ليسا على موعد فطور صباحي ، فالفطور الصباحي هو للجزائر والعمال والفلاحين ومضيفهم فيصل الأحمر الذي قتل ماركس في روايته هذه ثم اعتنقه لونا ومبدأً مضطربا، ذلك لأن فيصل الأحمر يعيش في معترك النوازع ، بين الدين والإيمان والقبيلة والأعراف، وبين “النبي” الذي حل ضيفا وغادر ولم يكن فيصل الأحمر مولودا وقتها ولا حتى جد فيصل، لكنه أخرج ماركس من رأسه ثم طار إليه على أجنحة الخيال وتطويع الزمن ليزيف لنا حقيقة زيارة ماركس، ويجعل العشاء هو عشاءه الأخير:
ولنا أن نقتبس :
(تذكَّر صدفةً اعترافًا غريبًا مفادُه أنها قد كتبت له رسالة فيها قصيدة..
وحدث أن حفظ القصيدة وظل يرددها مِرارًا. ومرت سنون طويلة من
ترتيلها واستعادتها بين الحين والآخر قبل أن تفاتحه بأن القصيدة كانت
اقتباسًا لقصيدة غير معروفة بشكلٍ واسع لجوته. وأخبرته بمزيجٍ من الحرَج والراحة بأنها قد عاشت رعبًا متكررًا كبيرًا من أن يرتلها ذات يوم على مَن يعرفها فيكتشف الاقتباس الفَجّ وتكون فضيحتها كبيرة.
لم يخبرها بأنه كان يعرف القصيدة الأصلية،.. وجعلها تعيش ارتياحًا
حقيقيًّا. ظل محافظًا على ابتسامة عاشقة يوم أن فاتحته بسرها الخفيف الثقيل:
(كَمْ أنا مرتاحة لتخفُّفي من هذا السر السخيف الذي أزعجني أكثر مما
يجب بكثير!”
أجابها ببساطة غامضة: “أنا سعيد لكونك سعيدة ومتخفف مما يُثقلك
أيضًا..)
هنا تحديدا تجد فيصل الأحمر يكذب على لسان ماركس، فليس لشرقي أن يغفر ببساطة ويحتمل كذبة مستمرة؛ وأكاد أجزم أن جيني هنا ليست جيني ماركس، ولعلها تمثل عزاءً لفيصل بعد أن جعلها حتى وهي تكذب مصدر راحة لماركس؛ وقد أذهب أبعد من ذلك لأقول هو نسق مراجعة للذات، فقد يكون فيصل الأحمر لم يسامحها على كذبها ومن شدة ندمه الذي ظل يؤرقه طلب من ماركس أن يسامحها، فماركس في زاوية من زوايا اعتقاد فيصل يعد نبيا، لكنه لا يستطيع التصريح وهو يؤدي كل فرائض الدين الاسلامي في بيته وبين أسرته؛ هذا هو معترك النوازع الذي أنجب لنا هذه الرواية التي تستحق دراسة معمقة.