صدر حديثًا عن دار ” خليفة للنشروالتوزيع ” ومكانها عمان/ الأردن رواية ( لا طائرفي هذه المدينة )، للكاتبة صالحة خليفة ، وهي رواية تنتمي للأدب الفنتازي الملتزم ، تجسد تداعيات الحرب بأسلوب غير تقليدي ، حاولت الكاتبة المزج بين الواقع والخيال ، فكانت مرآة أدبية تدمج الواقعي بالأسطوري ، وتحرص الكاتبة أن تضع القارئ في لجٍ من الأسئلة المزدحمة حول الحرب ومتى تكون نهايتها وكيف لها أن تتوقف ؟
تنتمي الرواية إلى أدب الفنتازيا لتسلط الضوء على الواقع المرير والمعاناة الإنسانية العميقة في حرب غزة ، تجسد من خلالها آثار الحروب على الطفل الغزّيّ والنساء والحوامل والشيوخ ضمن قالب سردي يتجاوز حدود الزمان والمكان ، تضع القارئ في عالم متخيل لطفولة فقدت حقها في التعليم وسلبت من اللعب في ساحات اللعب الآمنة ونزعت منها الحياة الطبيعية كغيرها من أطفال العالم انسخلت صفة المدرسة كمكان للتعليم لتأخذ صفة جديدة مكان للجوء ، وكذلك النساء والحوامل وما تعانيه طوال فترة الحمل من قلق وخوف وهلع على جنينها وغده المجهول وولادتها في خيمة تغرقها هطول الأمطار وتداعبها الرياح وتتقاذفها الأعاصير ، وتسيجها الخوف والرعب وقذائف الحرب تتراقص فوقه ليكون أول ما يسمعه هو صوتها وجنونها اللامنتهي فتتشكل لديه صورة قاتمة لما ينتظره، فيما يتيه الشيوخ في صحاري النسيان بعد أن فقدوا كل شيء حتى قصاصات ذاكرتهم .
الرواية صرخة أدبية مدوية في وجه الظلم ، ربما تصل لضمير الإنسانية لإيقاف نزيف الحرب في غزة التي لا ترحم أحدا ، وقد رسمت شخصيات الرواية بعناية وكذلك أسماء شخوصها والأحداث التي تنقلت بهم في الأزمنة والأمكنة ولم تقف إلى هنا بل إلى الكائنات الحيوانية التي أكسبتها صفات الإنسانية التي إنسلخت عن البشرية فكان هناك مفارقة واضحة ومقارنة في تلك المتغيرات التي حدثت للإنسان والحيوان وتبدل الأماكن والصفات ، تلك المدينة مدينة غزة لم تنجُ من لعنة الحرب لتسكن الظلمة مكان النور ، وتتحول أحلام الأطفال إلى رماد ، وترتجف النساء في أرحام الخوف ، والكائنات الأليفة سكنها الوجل والخوف ، والنباتات فقدت روحها والأزها سلبت من أريجها وما عادت تحتويها أصصها ، وشرفات البيوت التي تزينت بربيع زهورها وثرثرات النساء الصباحية ونسمات صباحهن وفناجين قهوتها تصحرت المدينة منها وسلبت الشرفات من هذه الحياة وما عادت تسمع صيحات الصبية وهم يلعبون الكرة في طرقاتها ، وجلسات الشيوخ الذين حرموا الجلوس في مقاهيهم ما عادت المدينة تحتضن جلساتهم ولا ذكرياتهم وأزمنتهم التي وأدت ، مدينة تصرخ في وجه العالم إلا أن لا أحد يسمعهم ويبالي بهم .

وعندما نقف عند لغة الرواية نجدها لغة مشبعة بالخيال والرمزية تدمج بين الواقع والأسطورة ، تتميز بأسلوب بلاغي ولغة خيالية مترفة ، هي نداء شعريّ وصرخة مخنوقة ، مرآة فنتازية تعكس ما آل إليه العالم من فقدانه لإنسانيته ولهويته الأخلاقية والقيم التي ما عادت تتسع له ، إن الأرض تبكي تأن وقد أشبعت من دخان الطائر المقاتل الذي ينفث سمومه على مدينة غزة وأهلها دون رأفة ، وبخبث ودهاء خدع سكان المدينة بطيبة قلوبهم وحبهم للحياة عندما إتخذ هيئة الفراشة لحظة قدومه إليهم انتظرحتى قويت شوكته وكثرت الفراشات التي من سلالته وفرح سكان المدينة بهم واعتنوا بها وبأولادها ، في ليلة وضحاها انقلب الحال وتمكن منهم فأصبحت الفراشة الجميلة التي تتراقص بألوان أجنحتها إلى طائر شرس قاتل وكذلك بقية الفراشات أصبحت طيور جارحة .
الرواية ( لا طائر في هذه المدينة ) تقدم لنا المرآة الحقيقية للعالم بصدق دون مواربة ، تضعنا أمام حقيقته عندما يفقد ماهيته ، ويماهي الظلم والإستبداد ، ويكشف الغطاء عن تنقاضه وتحيزه لمدن عن مدن أخرى ففي الحروب يفقد العالم العدالة والمساواة ليكون هناك بشر دون بشر وزوايا دون زوايا ، يقع العالم في وحل اللامساواة واللاعدالة بين الشعب الغزّي والشعوب الأخرى فتفقد الهيئات الإنسانية والحقوقية والدولية ماهيتها .
الحرب تطرح أسئلة لا جواب لها وتترك لنا تلوث لمبادئ الإنسانية تقتل الحياة على الكرة الأرضية من جميع الكائنات وتتصحر من كل مقومات الحياة ومن دمار واعتياد الموت والجوع والعطش ، وما يلحق بالإنسان من إعاقات وأمراض وفقد وأمراض نفسية من خوف وهلع و جزع ، كلها تضع العالم أمام سؤال : لِمَ ؟
تأخذنا الكاتبة صالحة خليفة في نهاية الرواية إلى بصيص النور المنبعث من شقوق الجدران المدمرة وأن الحرب وإن طالت فلا بد لها أن تتوقف ، فنقف هنا عند رمزية الكاتبة في إنهاء روايتها التي تحمل الكثير من الرمزية والخيال.
أما شخوص روايتها فنجد أن الشخصية المحورية في الرواية هي هند التي تقف أمام الموت والدمار المحيط بها لتنقذ والدها الكبير الذي يلح عليها أن تجلب له الماء كي لا يموت عطشًا وخلال بحثها عن الماء تجد جارتهم أم وضاح الطاعنة في السن وهي تنادي بصوت يئن وجعا وخوفا لمساعدتها من الخروج من شقتها المدمرة لتبدأ رحلة الشخصية المحورية هند وهي تواجه الموت وتتمسك بالحياة وتضعنا في المتخيل لكل ما ما يحدث من جنون الطائر المقاتل وجنوده وبين أناس لا ذنب لهم ولا طائل لهم لهذه الحرب الشرسة فنعيش معها أحداث الرواية بكل تفاصيلها ما بين الأسطورة والواقع ، و ما بين الحياة فوق الأرض وتحتها وكذلك وهي جنين لم يكتمل بعد في رحم أمها ووصفها لعالم دافئ آمن في بطن أمها والذي يعيشه المرء مرة واحدة في حياته ، تتمنى أن لا تخرج للحياة وتبقى في بطن أمها على أن تخرج لعالم شرس يفتك بالصغار قبل الكبار في حرب لا طائل لها بها .
ولا تقف الكاتبة صالحة خليفة عند شخصية هند وغيرها من الشخوص التي تحرك أحداث روايتها ، بل تتخطاها عند تلك الكائنات التي يخافها الإنسان منذ الأزل ويكفي شرها كي لا تقضي عليه ، لتسقط صفات الإنسانية وتصبغها بها بدلا عن صفاتها الشرسة والقاتلة للبشرية فنراها تلك الحيوانات الشرسة تنقذ هند الشخصية المحورية للرواية من الموت ، بينما الفراشة التي تتميز بجمالها وحبها لربيع الحياة تتحول لطائر قاتل شرس يدخل في صراع وحرب مع الإنسان ،تحاول في روايتها ( لا طائر في هذه المدينة ) أن تقلب لنا موازيين الكثير من الأمور المعتادة لتضع القارئ في صدمة حقيقية تعصف به وتلح على القارئ بالسؤال : هل الحرب تبقي كل شيء على ما هوعليه ؟ أم أن موازيين الحياة تتغير بفعل الحرب ؟