علي الراعي / سوريا
عندما وصلني كتاب “بيت لغيم النوارس”، وتأملت العنوان، توقعت أن أقرأ مجموعة شعرية، رغم التنويه من خلال عنوان فرعي بأن المحتوى “نصوص نثرية” وليس سردية، ربما من هنا كان الإيحاء بقصائد نثر، لا سيما وأن صاحب الكتاب، أكثر ما عرف عنه شواغله في كتابة القصيدة، وأكد أمر الاعتقاد العنوان الذي اختاره نمر سعدي لكتابه السالف الذكر.
ورغم كل المجاز الذي يشي به العنوان، فإن الكتاب لم يخض في القصيدة إلا بمستويين بعيدين إلى حد ما عن مناخات الصياغة الشعرية، ومع ذلك فهو لم يبتعد عن أجواء القصيدة، سواء في الاحتفاء بالقول الشعري، بما يقارب الخاطرة النقدية، لبعض قضايا الشعر، أو من خلال وجدانيات للاحتفاء بالشعراء أنفسهم، سواء في قديم الشعر، أو حديثه؛ حيث يأتي كتاب “بيتٌ لغيم النوارس” بعد عددٍ لا يستهان به من إصداراتٍ شعرية تجاوزت الاثنتي عشرة مجموعة للكاتب، غير أنه في هذا الكتاب يذهب سعدي إلى الفضاء الخلفي للقصيدة، ليفتش عن مختبراتها، ومراجلها الأولى، وهي تشوى وتتوهج فيما بعد على صفحات البياض، وهنا يجمع الكثير من تلك الخلاصات التي تكثفت لأجل صياغة القصيدة في أنوثتها الغامضة.
في المبحث الأول يشخّص نمر سعدي “محنة التجارب الجديدة في الشعر الفلسطيني” والتي عممها فيما بعد على مختلف التجارب الشعرية في العالم العربي، حيث قام في البداية بتجييل التجارب الشعرية الفلسطينية، ابتدأ بما كتبه شعراء الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، أو ما يطلق عليهم شعراء ما قبل الألفية الثالثة، ثم تجارب الشعر الفلسطيني الجديدة التي ظلت بعيدة عن دائرة الاهتمام النقدي، ومحبوسة ضمن إطارٍ ضيقٍ من المحلية. ووجد أن مشكلة الأدب تكمن في آلية التلقي اليوم في زمن الصورة والتكنولوجيا، إضافةً إلى حالة استسهال الكتابة في الشعر والنثر. ربما من هنا يفسر سبب الفراغ الذي تشكل بعد رحيل الشاعرين الفلسطينيين: محمود درويش، وسميح القاسم، حيث توارى ذلك النص المغاير، أو المختلف. فثمة اليوم أسماء كثيرة، ولكن من يكرس نفسه للحياة الإبداعية ويخلص لمشروعه الشعري ويعيش تجربته بكل عمق ورهبنة، هم قلة قليلة جداً، وهي تجارب فردية وذاتية لأصوات شعرية من الداخل الفلسطيني والشتات، ولكنها برأي الكاتب أصوات خافتة النبرة لشعراء شباب يتلمسون طريقهم، منهم من يمتلكون صوتهم المرهف الخاص، وبصمتهم الجمالية، وآخرون لا يزالون يبحثون عن ضالتهم، لكنهم جميعاً يبقون كنحلة في صحراء؛ حيث لم تتخلص تلك التجارب بعد من صراع الأشكال الشعرية وتأثيراتها. وميزة هذه التجارب تكمن في خفوت الوجودي والسياسي، لصالح الذاتي والنبرة الوجدانية والعاطفية.
وفي مبحثٍ آخر، عنونه الباحث بعنوانٍ شعري أيضاً: “القصيدة أنوثةٌ غامضة”، يتحدث من خلاله عن تجربته الخاصة في صياغة القصيدة، في هذا الزمن البعيد عن الشعر، وخلال هذا المقال يشير إلى مرجعياته الشعرية: نثر رسول حمزاتوف، وحسين مردان المركز، وميله لهواجس محمد الماغوط، الأخير الذي يكتب كأنه يرقص في الهواء، ويرمي العبارة كأنه يرمي كرةً سحرية في الفضاء، وينفث القصيدة، أو النص النثري، كما ينفث دخان سجائره. ثم يذهب بعيداً إلى أبي تمام والمتنبي، ليفسر لنا اختلافات القول الشعري بينهما ناقلاً عن ابن الأثير قوله: أما أبو تمام فإنه رب معانٍ وصقيل ألبابٍ وأذهان، وقد شهد له بكل معنى مبتكر، ولم يمشِ فيه على أثر. وجاء أدونيس بموقف الحداثة القائل: “إن أبا تمام انطلق من أولية اللغة الشعرية، أي خلق العالم باللغة، وشعره يصدر عن ضمير صنع ليصل إلى أن الشعر هو التطابق أو زواج الكلمة البكر بالعالم البكر”.
أبو تمام – برأي الكاتب – قطب كوكب الشعر العربي، والمتنبي القطب الآخر. وبرأيه فإن الشعراء موزعون بينهما ولكل مريدون وحواريون. والمساحة بينهما تتقلص وفق رغبة المريد، أو الحواري. وينتشي أخيراً بقول للمعري الذي يتحدث عن أن “أبا تمام والمتنبي حكيمان. وأما الشاعر فالبحتري”. هذه الينابيع التي يمتح وينهل منها الشاعر، يجدها أنها جفّت الآن أو كادت عند الأجيال الجديدة، فيما قصيدته لا يزال عليها غبار من قصائد الأسلاف، غبار نظيف، وطلعٌ خريفي كأثر الفراشة.
في المقالات اللاحقة من الكتاب، يتابع نمر سعدي وجدانياته النقدية، حيث تطول مرة لتأخذ أو تتجاوز الأربع صفحات، فيما تنوس مرات كثيرة إلى وجدانيات أخرى لصفحة واحدة، وأحياناً يقارب “المقال” منشور فيسبوكي، مقالات كثيراً ما تشكل (قراءات) نقدية بمجموعة شعرية لشاعر ما، أو قراءة بكامل التجربة، مقالات متنوعة غير أن ما يجمعها الهم الشعري، وهواجس القول الشعري، والإضاءة على تنويعات هذا القول الشعري.
الكتاب: بيت لغيمِ النوارس
الكاتب: نمر سعدي
الناشر: دار كنعان، دمشق