إخلاص فرنسيس
طواف سريع في كتاب (الكتابة بالحبر الأسود) للكاتب حسن مدن
هل اختار الكاتب العنوان جزافاً؟ متى يضع كاتب القصة أو الرواية عنوان النصّ الذي يكتبه؟
هل يحترف الكاتب الحلم؟ إنّ السؤال حين يتصدّر المقالة يشدّ القارئ إلى النهاية، لأنّ الكاتب يضعه أمام مسؤولية البحث عن الإجابة، وهو في طريقه للبحث عنها، في كلّ جملة يقرأها يكون الكاتب زرع في مخيلة القارئ معلومة، وهكذا ما إن ينتهي القارئ من قراءته يجد نفسه أمام جعبة مليئة، لكن الكاتب الحاذق هو وحده الذي يملأ هذه الجعبة بالمعلومات المفيدة للقارئ
هناك من يكتب الواقع وينتقده، أليس الجرّاح يشقّ الجلد واللحم، ويكسر العظم كي يعالج علّة ما؟ أليس مهمّة الكاتب أن يكتب عن واقعه، ويكون قلمه هو مشرط الجرّاح الذي يجرح، ويشفي من الأمراض التي نعاني منها، وما أكثرها.
***
إنّ الكاتب الذي يعيش بالحلم ما ينفكّ يسقط ما إن يتخلّى عن حلمه، لأنّ الواقع هوّة سحيقة مليئة بمرارة الحنظل والعلقم، لكن هل يستطيع الكاتب أن يتخلّى عن حلمه، أو يتنصّل من واقعه؟ وإن تخلى وتنصّل فهل يكون قلمه الطبيب المعالج؟
إنّ الطبيب الماهر هو الذي يتابع كلّ تطورات واكتشافات الطبّ الحديث على أرض الواقع، فالنظرية إن لم تتمّ تجربتها على الواقع تبقى محض نظرية، ولا يمكن للطبيب أن يعالج مرضاه فقط بالنظريات، النظرية هي الحلم، والتطبيق هو الواقع، لا بدّ من دمج الاثنين معًا
إنّ أنجح الأطبّاء أولئك الذين يتعاملون مع المريض بكلّ بساطة وأريحية، إنّ الطبيب الذي يكتب الشعر أو الرواية أو الشغوف بالأدب تراه جرّاحًا ناجحًا، لأنّه يتعاطى من منطلق المشاعر الإنسانية.
*****
هل الحزن هو من طبيعة الإنسان الأشدّ تأثيرًا عليه، وعلى الكاتب بصورة عامّة؟ هل الحزن هو القائد إلى الإبداع؟
ألا يستطيع الكاتب أن يكتب، ويبدع دون أن يكون حزينًا؟ لماذا معظم المبدعين كتبوا بحبر القلب كما قال جبران خليل جبران: (يغمسون أقلامهم في قلوبنا، ويدعون الكتابة)؟
هل حقيقة أنّ بعض الكتاب يتبعون طريقة العنادل في اتّخاذ الألم مصدر إلهام، فنرى العندليب شبيهًا بالكاتب المبدع، يخرز في صدره شوكة كي يتألّم، وعندها يبدأ بالغناء الذي تطرب له النفوس
لماذا تكثر الكتابات عن آلام البشر لا عن أفراحهم؟ لماذا تهزّنا تلك الأوجاع، ويبقى الكاتب تحت سوط ذلك الشيء الذي لا يستطيع تفسيره، الشعور بالجحيم والخوف من الإخفاق والفقد والتوق إلى ما لا يراه الآخرون
المرأة وكما في كل كتابات الادباء والشعراء العرب، كان لها نصيب جميل أيضاً في الحبر الأسود، لا يخفى علينا إن الكاتب تناول موضوع المرأة بشكل مختلف ودرس بشكل مكثف ما قيل عن المرأة من المرأة وما قال الرجل عن المرأة وكانت له مقارنة حية مستوفية الشروط ومتكاملة، وذلك من خلال طرح أكثر من سؤال أراد من خلال ان يفتح الباب إلى وجدان المرأة وفكرها ويسبر روحها عله يفك اللغز الذي وقف الجميع أمامه حائراً
حين تكتب المرأة، هل هناك نمط معيّن تتبعه؟ وهل للمرأة لغة خاصّة وطقوس خاصّة في الكتابة؟
أسئلة تطرح كثيرًا ممن يهتمون بكتابات المرأة. إنّ التقسيم بين الرجل والمرأة هو تقسيم اجتماعيّ وليس أدبيًّا
أليس هناك رجال استطاعوا الولوج إلى عالم المرأة وبواطنها وتفوّقوا عليها؟
إنّ المجتمعات تختلف عن بعضها، لذا تختلف كتابة المرأة عن الرجل، ففي المجتمعات المحافظة تتعرّض المرأة إلى التهميش والتمييز والإلغاء في بعض الأحيان، ما يجعل كتابتها تختلف كليًّا عن كتابة الرجل، فالقمع يؤدّي بالمرأة إلى المعاناة التي تنتج عنها السلبيات في الكتابة، أو الانفتاح والتحرّر الأقرب إلى الإباحية منه إلى الحرية الفكرية
إنّ الأنامل الطويلة التي تتزيّن بلون التوت هي أنامل امتدّت جذورها إلى معاقل الحكمة والروح وبواطن الوجدان والإحساس
ويخلص الكاتب إلى أنّ العذوبة في التعبير هي كمنتجات أثيرية أعمق من المحيط إن تكلّمت عن الحبّ، وهي شفّافة مثل نور القمر الذي يتلألأ. هذه هي المرأة المبدعة
مهما اجتهد الكاتب تأتي لحظات فيها يرى أنّه لم ينجز شيئًا بل كأنّه يحفر في صخر أصمّ، فيعود إلى الذات والتكوّر داخلها
****
الكتابة بحبر أسود
وحده العنوان يشدّك إن كنت تحبّ الكتابة والقراءة، فمادّة الحبر لها بين النقّاد الحيّز الكبير الذي أسهبوا في وصفها ومعانيها، وما ترمز إليه، ونوعية الحبر وغير ذلك، لكن أن يكون الحبر أسود فلك أن تتخيّل أين يذهب القارئ أو الناقد إلى التحليل، فالكلّ يعرف أنّ اللون الأسود يشير إلى السودواية المعقّدة نفسيًّا، وإلى الذين يميلون إلى الانتحار والوحدة، وإلى القنوط
هذا من جهة النقاد السوداويين، أمّا من جهة مصمّمي الملابس السوداء فهي تتّسم بالجدّية لمن يرتادها والكلاسيكية ورفض كلّ ما هو دخيل من ألوان، أي رفض الفرح. ومن يلبس الأسود يقال إنّه يميل إلى الغموض، فهو لون الليل الذي تحت جنحه لا يرى أحد ما يجري، وكلّ من يريد السرقة يرتدي الأسود كي يتماهى مع الليل
الشرّ يوصف بالسواد والشرير هو أسود القلب والعقل
إنّ الأسود لون المرأة العاشقة التي تحلم بفارس الأحلام، فالأنثى التي تريد الإغراء ترتدي الأسود في الحفلات الرسمية
إنّ الأسود لون الحداد في بعض البلاد، ونجد الكثير من الورد الأسود
أعود إلى العنوان الذي شدّني، التعاسة الصارخة التي يراها الآخر فينا إن أبدينا رأيًا لا يوافق الرأي الآخر، النفس البشرية المعقّدة التي ما زال علماء النفس يحاولون فهمها ودراستها، وأسباب بعض التصرفات العشوائية التي يشعر بها الإنسان، ويجد نفسه فجأة غارقا فيها دون أن يجد أيّ مبرّر لذلك
لقد وضعت الدراسات الحديثة الكثيرة والفلسفات التي تفسّر بعض التصرّفات التي تصدر عن الإنسان، وتدور حول النفس البشرية، لكن دون جدوى. لماذا مثلًا أنا أستيقظ صباحًا بمزاج مضطرب، قبل أن أقابل من يجيبني على هذا السؤال البسيط، وبعد مرور بعض الوقت يتغيّر مزاجي دون أيّ تدخّلات خارجية، فقط بعد أن أجلس وحدي أشرب فنجان القهوة، والاستماع للموسيقا قليلًا، يتغيّر المزاج السوداويّ بكلّ بساطة، لكن هل من يصدّق؟ كما ذلك الفتى الذي كان يكتب بالحبر الأسود لأنّه لا يملك قلمًا آخر، كم يُحكم علينا من خلال النظرة المحدودة ومن زاوية ضيقة، وكم هي مؤلمة تلك الأحكام التي نصدرها حيث تودي بحياة فنّانة كانت تبحث عن العمق (الخيالي) الخامس الذي وضعه في رأسها ذلك الصحفيّ بقصد أو غير قصد، أودى بحياتها انتحارًا، وهي تبحث عن العمق الذي يكمن في بساطة فهمنا للأشياء، وليس تعقيدها كما يطمح بعض الكتّاب الذين يستخدمون المفردات الغامضة، كي يضفوا على نصوصهم نوعًا من الغموض والعمق باعتقادهم بذلك يفقد القارئ متعة القراءة لأنّه لا يفهم ما يقرأ، ويستهلك طاقته في محاولة فهم الكلمة كي يفهم ما يكتبه الكاتب، وبهذا يفقد الاتصال مع النصّ، ويفقد الحماس للقراءة حين يجد صعوبة في الاسترسال
قال توفيق الحكيم :” الفنّ صعب للفنان وسهل للناس”
خمس وثمانون مقالة لكلّ واحدة نكهتها الخاصّة، كأنك في حديقة مختلفة الزهور والعطور
إنّ الكتابة عملية عقلية معقّدة وصعبة كما رأى الحكيم ، لكن كاتبنا قدّمها لنا وليمة عامرة بأطايب الكلام
الكتاب ضخم يناسب الرحلة الطويلة التي كنا معه في كلّ شاردة وواردة فهو من 350 صفحة ، وما إن ننتهي منه حتى يعاودنا الشوق إلى قراءته، والنهل ما أطايبه
لا يخفى علينا أنّ الكاتب حسن مدن وإن كان يغمر قلمه البحث العلميّ الذي يعتقد البعض أنّ حبره جافّ، لكن نجده في كثير من النصوص يغلب عليه السرد الإبداعيّ القصصيّ والشعريّ لما تحمله بعض النصوص من صور شعرية فيّاضة بالإشراق
لقد خصّص الكاتب حيزًا كبيرًا من كتابه عن الكتابة والقراءة، وكأني به يقول: إنّ الإنسان ما يكتب وما يقرأ
إن كان الكاتب يسكب من روحه على الورق تُرى كيف يتعامل القارئ مع هذه الروح؟
لقد سلّط الكاتب في مجمل كتابه على روح الكتابة، وناقش حرفية الكلمة، متى تقتل، ومتى تحيي، وأيّ كلمة هي التي تمتحن بالنار وتصمد
“الكتابة بحبر أسود” بياض في سواد العالم، ونور على نور