مثقّف لبناني لامع في تاريخنا الثقافي العربي الحديث
سيار الجميل
تأثّرت منذ شبابي المبكّر بكتب ناقد لبناني عظيم ، وأعجبتُ باسلوبهِ وأفكارهِ ومدرستهِ في النقد فضلاً عن تفكيرهِ وعشقه الأدب والحرية والحياة، اذ قرأتُ كلّ كتبهِ ومقالاتهِ وتعلّمت منها الكثير، خصوصاً أننّي كنت ولم أزل أعتبرهُ عملاقاً،ولكن ظلمتهُ ثقافتنا العربية،بل وأستطيع القول أنّه الأكثر غبناً مع شخصياتٍ مبدعةٍ أخرى في تاريخنا الثقافي وذلك بسببِ غلبةِ الجهلاء الذين يصفقون لذوي الشهرة ولمن تلمّعهم السلطات والطوائف والأحزاب والاعلاميين التافهين الذين يرّوجون لهذا ويعّتمون على ذاك..وقد وقفتُ على ضريحهِ اجلالاً ووفاءً لذكراه في واحدةٍ من زياراتي الى لبنان . فمن يكون ؟
الناقد اللبناني الكبير مارون عبود 1889- 1962م الذي أبدع في النقد الأدبي، وعرف بتراثه الأدبي الرائع، وعبارته الأدبية الجميلة ولغته المختزلة وخطابهِ المحكم ، وكأنّه يكتب لنا باشارات مفهومة متناولاً النصوص والمسردات والأشعار والخطاب والواقع كي يخضع ما يراه بحاجة للنقد الحقيقي ويطرح نقده بشجاعة قوّية ، وهو الضلّيع في اللغة، كونه واحداً من ” رواد النهضة الحديثة “. انني أتخيلّه نسراً ينقّض كالصاعقةِ على فرائسهِ كي يكتب ما يراه صائباً ، فأمّا يقبض على أنفاسها أو يعلّمها درساً لن تنساه، كما ويضع الحقائق في مكانها الطبيعي. لم يكن مغالياً أو مخطئاً أو جارحاً عندما وضعَ بعضهم “على المحّك “وأسمى كتابهُ عن الفحول بـ ” الرؤوس”، وأسمى كتابه الآخر عن الرومانسيين بـ “دمَقس وأرجوان “، وميّز بين “جدد وقدماء “، ووضع من يستحق “في المختبر ” ، وأخرج بعضهم”من الجراب”، وأرسل بعضهم “على الطائر”، وفرّق بين فئتين من المثقفين في كتابهِ “مجددّون ومجترّون”. وكان شجاعاً مارداً في أن يكتب ” أقزام وجبابرة ” ويميّز بين ” أشباح ورموز “و “وجوه وحكايات”، ويحكي لنا “حكايات القرية”،وينشر “كتاب الشعب” ، ويعلّم الآخرين فصول كتابه “سبل ومناهج”، ويكتب “نقدات عابر”. وكان جريئاً في”مناوشات” طالت الضعاف والمهترئين ، وحملَ على هذا وذاك “من كلّ وادٍ عصا “، ورمى من يستحق بـ ” آخر حجر “، وقبل وقت طويل من اندلاع الحرب الأهليّة في لبنان عام 1975، كتب كتابه ” زوابع ” و ” زوبعة الدهور ” و ” قبل انفجار البركان “. كان مارون عبود يشكّ في كارثة تنتظرها بلاده الساحرة ، وقد غدت ميادين قتل وقنص وأقفاص كراهية وحمام دم كي تتوالد فيها لاحقاً الأشباح السوداء في ” مغاور الجن” عند بدايات القرن الحادي والعشرين !
كان مارون عبود قويّ الكلمة، نافذ الرؤية، عميق التفكير، منفتح الرؤية، حاد البصيرة .. لم يتخّيل أبداً لبنان سيكثر فيه العميان ! ومن يقرأ نقداته السياسية يتراءى للقارئ أنه يتعامل مع نصّ فيلسوفٍ وحكيم بارع . انّ أعماله قد عبّرت عن فلسفة التموّج التي لا يقتنع بها اليساريون المؤدلجون الذين يؤمنون بالحتمية التاريخية، وهذه مجرّد هُراء .. فالمعرفة النقدية هي التي تقف وراء تحقيق رؤية العالم الذي يتموّج تاريخياً، فيوم لك ويوم عليك . كان مارون مثقفاً استثنائياً بعَفويتِه المعهودةِ وجَرأته في الطَّرح، فناقَشَ العديدَ من الأمورِ الحياتيةِ برؤيةٍ مُغايرة، ومسَّتْ تأمُّلاتُه أطرافَ الأرضِ وحدودَ السماء. وربما تختلفُ معه فكريًّا، ولكنك ستُفاجأُ بقُدرتِه على التعبيرِ عن دواخلهِ وفلسفتهِ في الحياة ، وستُصِيبُك قوةُ لحْظِه وبَراعةُ تفاصيلِه ومدى صِدقِه بدهشةٍ تصنعُ من قراءةِ نصوصِه تجرِبةً لا تُضاهَى، تتركُك مُعجبًا، ومُشبعًا بطاقةٍ إنسانيةٍ مُلهِمة منها ذكره أهمية الشعر عند العرب باعتبارهِ صَفْو الحياةِ، وومضة الوجدان ، وقد كتب عن ” أدب العرب” .. وتطغى على كلّ كتاباته موهبة القصّ والحكاية والحوار.
عدتُ اليوم أقرأ لمارون عبود ثانية بعد أكثر من نصف قرن على قراءاتي الأولى له كي أتعلم منه ثانيةً ، فوجدتُ أنّ ما كان يتطّلع اليه ناقدًا بالأساس، بدأ معلّماً لنا وهو يجيب على سؤال مهم : كيف تكون مثقفّا حقيقيا تتماشى مع خطوات المعرفة والاخلاق من أجل اغناء مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية ليس في لبنان وحده، بل في كلّ أرجاء منطقتنا التي تطمح أجيالها الجديدة الخروج من مأزق مخلفات الماضي العقيم ؟ قال مارون : ” يُولدُ المرءُ ويُولدُ معه حبُّ الحُرية. تأمَّلِ الطفلَ كيفَ يُنازعُ الأَقمِطة، ثُم كَمْ يقعُ ويقومُ في سبيلِ الانطلاق …” .
امتلكَ هذا الرجل الرائع على غرار أترابه من النهضويين اللبنانيين ، الموهبة والشجاعة والارادة في قول ما يؤمن به وينشره علناً على الناس بلا مواربة .. أسمى ولده “محمّدا” فثار قومه ضدّه ، ولم يأبه بما قالوه أبداً .. تمتّع بأخلاقيات عليا نتلّمسها من كتاباته ومقالاته وعلاقاته بالآخرين ونشر اكثر من أربعين كتاباً وعدداً من المقالات الممتعة ..كان معلّماً حقيقياً للجيل الذي تربّى على أفكاره .. ارتقت مكانته في أكثر من مكان وكرمّته عدة دول ، لكنه بقيَ متواضعاً ومحترماً .. تعجبني مقالاته التي نشرها في مجلة الأديب اللبنانية ، وقد قرأتها كلها .. كم أتمنى على أجيال اليوم أن تلتفت الى المثقفين المستنيرين المبدعين القدماء قليلاً لتتعلّم منهم الحكمة والدروس بعيداً عن كتب الانشائيين والسرّاق التافهين المعاصرين.
ملاحظة : كل ما ورد من كلمات بين مزدوجين في النص أعلاه هي عناوين كتب مارود عبود .
نشرت يوم الثلاثاء 14 يناير / كانون الثاني 2025 على الموقع الرسمي للدكتور سيّار الجميل .