كنت أسعى إلى لقاء “سلطان الكرى”، ومن المعروف عن جنابه انه ـ ككل المتشاوفين ـ لا يأتي إلى أي سرير، وسريري ـ ولله الحمد ـ بسيط بساطة العبد لله!
ليس كسرير “لودفيج الثاني”، الذي كان ملكاً على بافاريا، والذي قيل عنه ـ عن السرير ـ، انه كلف مئة ألف دولار، وبدا مثل قلعة! وليس كسرير الكاردينال “ريشيليو”، الذي كان نقالاً، لكنه احتاج إلى ستة رجال لحمله من مكان إلى آخر خلال زياراته!
وليس واحداً من الأسرّة، التي نام عليها الكثير من العظماء الآخرين، وأمضوا وقتاً أطول على فراشهم!
فقد ألف “جون ملتون”، الجزء الأكبر من قصيدته الملحمية “الفردوس المفقود”، في سريره! وفي سريره، كتب “ونستون تشرشل” الكثير من “تاريخ الشعوب الناطقة الإنجليزية”! ويقال ان “الاسكندر المقدوني”، كان يأخذ القرارات، ويصدر الأوامر، وهو مضجع في سريره، ومحاطاً بألفي معاون!
وقال أحدهم: اكتب وأنت نائم، مثلما كان يفعل نجيب محفوظ في سنواته الأخيرة!
لذلك؛ ما ان أستوي على فراشي، حتى يأسرني كثير من الأرق، حارماً أياي من أن يأخذني فارس النوم اللذيذ إلى عالمه الفريد!
الأرق، عندما يجيء، هو الرد على التحدي الصعب لفكرة موضوع من الموضوعات، التي تريد الأنفلات من رأسي، ولذلك ـ أيضاً ـ، فأنا دائماً مستعد لهذا اللقاء مع “العقل المسابق” بأفكاره المحمومة التي تتدفق، ولا تهدأ، ولا تتوقف على مائدة السرير المستديرة، فأجدني أضع على الطاولة الملاصقة لوسادتي: ورّاقة وقلم رصاص (رغم كل أنواع الأقلام المستحدثة، وكأن على كل إنسان أن يقاتل بطريقته الخاصة: بقلم رصاص، أو: طلقة رصاص)!
فكل بضع دقائق، تنبت فكرة ما برأسي؛ فآخذها، واتحسس في الظلام ـ حتى لا أوقظ زوجتي ـ للوصول إلى الورّاقة والقلم، وأدوّن بعض الكلمات، التي قد تكون نواة للبنية التحتية لمقال قادم، أو بعض الأقوال المأثورة التي تدعم فكرتي المتناثرة!
ولأن هذه الكلمات اكتبها على عجل، قبل أن تطير على جناح ألزهايمر، واكتبها على ضوء الظلام (يبدو أن الظلام من قدر الكلمة التي نكتبها، فهي تخرج من ظلام جمجمتنا إلى ظلام حجرتنا، وتظهر في حروف سوداء)، لذلك، فعندما يأتي الصباح، وأنظر إلى ما كتبته على ضوء النهار، فإذا هي حروف متداخلة، وكلمات منقلبة رأساً على عقب، مما يربكني!
ففي باديء الأمر لا أفهم ما تعني بعض الكلمات، وبعضها يجعلني أبتسم، أو أضع يدي المتهالكة، على قلبي!، فعلى سبيل المثال، كانت بعض الكلمات، تبدو هكذا: أنا أكتب اذن أنا “موءود”، أقصد: “موجود”!، وكل الطرق تؤدي إلى “روءا”، أقصد: “روما”!
و “روءا” هذه، ويا للمصادفة (أرجو ألا تحسبوا ذلك من قبيل مخارج عقلي الباطن)، هو اسم الدلع لجارة لنا. ولو وقعت هذه الكلمات في قبضة فضول زوجتي؛ لقدمتني إلى محكمتها المتشددة القضاء، والتي شعارها: “الغيرة أساس الحكم”!
قال الكاتب الأمريكي “ديل كارنيجي”: “دع القلق وابدأ الحياة”، فقلت لنفسي، متحدياً الأرق: “دع الأرق وابدأ الكتابة”، كنوع من الفذلكة، ومحاولة الامساك ـ كطفل – بتلابيب هذا الكاتب العبقري!
فالكتابة، كما تقول مقولة فرعونية، هي: “حاسة مقدسة يهبها الإله للكاتب؛ فیری ويسمع، ما لا يراه أو يسمعه غيره”!
وهنا جاءني تمثال الكاتب المصري، “الجالس القرفصاء”؛ ربما لأنني كنت جالساً القرفصاء، مثله، على سريري، وربما لأنني جئت بسيرة آبائه، وأجدادي القدماء، الذين كادوا أن يعلنوا لنا عن نظريتهم المدهشة: “أن الأفكار أصلها قرد”، قبل أن يبوح عالم التاريخ الطبيعي البريطاني تشارلز داروین، بنظريته المثيرة للجدل، والتي تقول: “أن الإنسان أصله قرد”!
فالأديب، وكاتب المعرفة، والحكمة ـ عند الفراعنة -، رمزوا له بالكاتب الجالس، وقد استوى على كتفيه قرد، وهو – أي القرد – يرمز للإله تحوت، أو توت، إله الحكمة والكتابة والوحي، معتقدين أن القرد هو الذي يبتدع الكلمات، ويلقن الإنسان: وحي الفكر، والمعرفة، والحكمة!
لا أعرف كيف تمكنت أخيراً من النوم، بعد أن كنت أقفز، كالقرد، من على فراشي؛ لأكتب كلمة أو كلمتين. ولكني، على كل حال، غير نادم على أفكار مبعثرة، بدأت في ساعات أرقي الليلي، وانتهت “بالقرفصة”، تماماً كتمثال الكاتب المصري القديم، فالليل ثمين، ومن المؤسف أن نهدره كله في التوم. ان ليلة أرق ليست دائماً ليلة سيئة!