هوشنك أوسي
ندوة “السّرد خارج الوطن” التي نظّمها مختبر السّرد في مكتبة الاسكندريّة العريقة في مصر العزيزة، يوم الثلاثاء الماضي 20/12/2022
مجدّدًا، جزيل الشّكر والامتنان للصّديق العزيز، منير عتيبة، القاص والنّاقد والرّوائي المصري على دعوته لي للمشاركة
**********************************
في مديحِ الغُربةِ والكتابة
هوشنك أوسي
حينَ ولِدتُ، كانَ الحِرمانُ في استقبالي، إلى جوارهِ يقفُ الفقرُ والعجزُ والإعاقةُ، مبتسمين، فاتحينَ أحضانهم لي، قائلين: أهلاً بكَ في رحاب البؤس، أيّها الضّيفُ العزيز. نحنُ مكلّفون مِن الأقدار بتلقينكَ الكراهيةَ؛ كراهيةَ نفسكَ، ومحيطكَ، والأرض التي ولدتَ عليها، وستعيشُ تحت سمائها، ويسمّونها؛ الوطن
لم تكد أن تمضي أربع سنوات، حتّى ازدادت محنتي، بانضمام مُعلّمٍ جديد إلى طاقم أساتذتي المذكورين. ومع رحيل والدي، صارت جدرانُ سجني، بسقفٍ مرعبٍ منخفض هو اليُتمُ. ولو عاش محمد الماغوط داخل ذلك السّجن الذي عشته، لَحذفَ حرفَ السّين من عنوان كتابهِ “سأخون وطني”. ولكنني لم أخنْهُ. زد على ذلك، فشلَ أولئك الأساتذة العتاة؛ الفقر، اليتمُ، الإعاقة، والحرمان من حقوقي المدنيّة والسياسيّة، فشلوا في تلقيني الكراهية، واجتثاث الوطن من أعماقي. وبقيت علاقتي بالوطن مُلتَبسة. إذ لا يمكنني أن أحبَّ أرضًا سلبني نظامها السّياسي كينونتي، هويّتي، كرامتي، حرّيتي، إرادتي، كلمتي، حقيقتي، وسعى إلى اجتثاثي وصهري ودمجي في إسطبل الشّعارات والخرافات القوميّة. ولا أستطع كراهية أرضٍ تنفّستُ عليها هواء أوّل شهقة، أوّل حبّ، أوّل حُلم، أوّل قصيدة، تلك الأرض التي وقفتْ عليها أمّي وهي تردّد لي الأغنيات، ووقفتْ عليها جدّتي وهي تسرد لي الحكايات. الأرضُ التي سُقتُ أغنامي القليلةَ، إلى مراعيها، ذات طفولةٍ مكلومةٍ تخوضُ صراعًا باكرًا. إنّها الأرضُ التي ترقدُ تحتها عظام جدّي وزوجتيه؛ في مقبرتين بدمشق والدرباسيّة. وأيّ أرضٍ تنام تحتها عظام الأجداد، لا يمكنني إلاّ أن أحترمها، حتّى لو لم يعترف نظامها السّياسي بوجودي كإنسان وقيمة ثقافيّة، قوميّة، أدبيّة مضافة إلى حاضر وتاريخ ومستقبل ذلك الوطن.
ولأنّني كردي، حُرِمتُ من الحقوق المدنيّة، ومنها السّفر، وحقّ التّعلم بلغتي الأمّ، حتّى قبل أن أولد. ولأنّني سوري، حُرِمتُ من الحرّية والعدالة والديمقراطيّة، كما أسلفت. ربّما هذان السّببان كافيان كي أكون كائن ثنائي اللّغة، بلغتي أمّ؛ كرديّة وعربيّة، أسافرُ كثيرًا في رواياتي إلى أمكانَ لم تطأها قدماي
في روايتي الأولى؛ “وطأة اليقين” (بيروت 2016) زرتُ المغرب، تونس، مصر، سويسرا، فلسطين…، قبل أن أزورها وأراها رؤية العين. وفي روايتي الثانية؛ “حفلة أوهام مفتوحة”، زرتُ كوريا الجنوبية، كولومبيا وبلدان أخرى. في روايتي الثالثة؛ “الأفغاني: سماوات قلقة” (الأردن 2020)، زرتُ أفغانستان، باكستان، الجزائر، إيران، فلسطين، كردستان وأماكن أخرى. في روايتي الرّابعة؛ “كأنّني لم أكن” (بيروت 2022) زرت كازخستان، أوكرانيا، روسيا، إيران، كردستان سوريا، لندن وباريس. أمّا روايتي الخامسة، التي ستصدرُ في مصر قريبًا، أسافرُ فيها إلى المستقبل حاملاً حقائب الحاضر والماضي، المليئة بقبائح النّفس البشريّة ورذائلها وفضائلها. روايةٌ معروفةُ الزّمان، ومجهولةُ المكان، مِن صنف الخيال العلمي
حاصل قولي: وفّرتِ الكتابةُ الرّوائيةُ لي رُخصةَ السّفر بين الأماكن والأزمنة أيضًا. كلّ ذلك، بعد مضي خمس سنوات على تواجدي في بلجيكا، الوطن الجديد المضاف إليّ
عشتُ في دمشق قرابة عقدٍ ونيّف. هاجرتُ إليها من بلدة نائية على الحدود التركيّة. لم انتبه إلى جمال المدينة وقتذاك. لم أنظرْ إليها بعين السّائح، أو الرّوائي الرّاصد المدقّق الذي يُلفتُ انتباهه أدقُّ التفاصيل وأتفهها. كانت نظرتي إليها، نظرةَ الفقيرِ الباحث عن العمل وتأمين لقمة العيش، الذي لا يمتلك ترف التمعّن في ملامح المدن؛ عمارتها وحيواتها ونسائها.
بعد مغادرتي دمشق مُكرهًا، ملاحقًا أمنيًّا، لأسباب سياسيّة، واستقراري في بلجيكا، حاولتُ استرداد الشّام روائيًّا، فحضرت بعض تفاصيلها وحيواتها في رواياتي، بخاصّة منها الأولى “وطأة اليقين”، والرّابعة “كأنّني لم أكن”. وعليه، الوطن الجديد، (وأتحفّظ على وصف الغربة أو المهجر)، لم يلغِ دورَ ووزنَ دمشقَ في قلبي، عقلي، خيالي ووجداني. وبالرّغم من كلّ ما قدّمته لي بلجيكا إلاّ أنّها لم تحلْ محلَّ سوريا، بل عاضدتها، ووقفت إلى جوارها كوطن شريك ومساهم في صناعة وعي ذلك الشّاب الذي غادر دمشق مكرهًا في ربيع 2009، وخبرةِ هذا الطّفل الذي ما زلتُهُ
مقصدي؛ بلجيكا، جعلتني أحبّ دمشق أكثر، وساعدتني على رؤيتها بشكل أكثر وضوحًا. وغالبُ الظنّ والاعتقاد لدي؛ أنّني إذا عدتُ إلى العيش في دمشق، سأحنُّ إلى بلجيكا، ومدينة أوستند السّاحليّة التي أسكنها الآن
زيدوا على هذا وذاك، أنا كائن سريع الانتماء إلى الأمكنة، متعدّد الأوطان، وطني البرّ والبحر والهواء. شيءٌ يشبه الكائن البرمائي والهوائي في آن، فكيفَ لي أن أشعر بالغربة
هذه التي تسمّونها “الغربة” كانت ولمّا تزل، خيرَ أستاذةٍ لي، علّمتني هذه الأشياء والأفكار التي سردتها لكم، وأعتقد أنّها جميلة، أكثر مما علّمني وطني الذي ولدت فيه. لذا، حنيني لوطني الأوّل؛ سوريا هو نفسه حنيني إلى كردستان، مصر، فلسطين، تونس، تركيا، وبلجيكا. وأكادُ أن أقول: على الصّعيد الشّخصي والرّوائي أيضًا؛ أزالت الغربةُ الحدود بين أوطاني العديدة، التي تزداد مع كلّ عمل روائي جديد انتهي من كتابته
هكذا، وببساطة، تحوّلت الكتابة الرّوائية لدي؛ إلى كونٍ تتحرّك فيه أوطاني العديدة، تتلاقى، تتقاطعُ، تتشاركُ، ولا تشتبِكُ أو تتعارضُ أو تتصارع على أولويّة الانتماء إليها. هناك تصالح بين أوطاني على مساحات أعمالي الروائيّة. وعليهِ، ليس مُستغربًا أن تجدوا في أعمالي الرّوائيّة الكرديَ إلى جوار العربي أو البلجيكي، الفارسي، التركي، الإفريقي، الآسيوي، يشتركون في صناعة الأحداث وتفاصيلها
مقصدي مما سلف؛ هويتي الثقافيّة مركّبة، كذلك رواياتي مركّبة. لا امتلك طقوسًا معيّنة للكتابة، حين كنتُ في دمشق، وحين صرتُ في بلجيكا أيضًا. الوطنُ والغربة لا يقفان عندي على طرفي نقيض. الوطن الجديد ساهم في تعزيز شغف الكتابة لدي، وأخذ بيدي كثيرًا. فتح المجال أمامي للمزيد من التجريب، ورفدني بالخبرات. الوطن الأوّل جعل منّي شاعرًا. والوطن الثاني (الغربة) جعل منّي روائيًّا. وفي انتظار ما سيصنع منّي وطني الثّالث أو الرّابع. هكذا أنا، في الواقع، وفي الكتابة؛ بلاد الحب أوطاني.. من الشّعر إلى النّثر، إلى الرّواية، ومَن يبحثْ عنّي ويقرأني، يجدْني ويلقَني
أوستند – بلجيكا
11/12/2022
غرفة 19
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم
- سلطة الدجاج بالعسل والخردل